السودان اليوم ليس عراق الأمس

TT

عقد الأخ الكريم عبد الرحمن الراشد في حديثه المنشور بجريدتكم الغراء يومي الأربعاء ـ الخميس 10 و11 أغسطس (آب) الحالي، مقارنة بين مسلك العرب الجماعي في قمة شرم الشيخ وقراراتهم في مساندة العراق قبل عام ونصف العام، وما جادوا به على السودان ودارفور في لقاء وزراء الخارجية العرب في القاهرة مطلع الأسبوع الحالي.

حجة الأخ الراشد وسنده في التشبيه والمقارنة بين الحالتين، العراقية آنذاك، والسودانية اليوم، أن قمة شرم الشيخ لم تمنع عن العراق الكارثة، التي حاقت به ولحقته فعجلت بسقوط النظام، إذ أرسلت قمة شرم الشيخ ـ كما قال ـ رسالة خاطئة للرئيس صدام حسين.. رسالة تطمين وتخدير. وجاء في مقاله: «في قمة العرب الشهيرة في مطلع مارس (آذار) عام 2003، تجنب الحاضرون إغضاب الحكومة العراقية آنذاك، رغم ان طبول الحرب كانت تقرع، فتبنوا بياناً عنترياً يحذر ويندد ويؤكد كما تم تمزيق العرض الوحيد بسلام يحمي العراق ويعوض القيادة العراقية بمخرج أمن أيضا ...» انتهى.

ويأخذ الأخ الراشد على الجامعة العربية في اجتماع وزرائها الأخير بالقاهرة حول السودان ما يلي:

«الجامعة العربية بدل التعامل بجدية مع المشكلة أرادت إرضاء حكومة شريكة (حكومة السودان) ببيانات تعطي انطباعاً خاطئاً للسلطة في الخرطوم والشعب السوداني، فقد رفضت الجامعة التدخل في الشؤون السودانية ورفضت القوات من الجوار أو الخارج من دون موافقة الخرطوم.. وما يمكن أن نقوله للإخوة في الخرطوم أن عليهم أن يقرأوا بيان شرم الشيخ ويطالعوا كيف انتهى الحال بالسلطة والعراق والعراقيين ومن صار يجلس في كرسي المندوب العراقي اليوم ...» انتهى.

وأعجب لهذه المقارنة والمطابقة بين الحالتين السودانية اليوم، والعراقية آنذاك، وبين نتائج قمة الرؤساء في شرم الشيخ قبل عام ونيف، ولقاء الوزراء العرب في القاهرة قبل أقل من أسبوع.. فلا الأسباب ولا الخلفيات ولا تداعيات الأزمة ـ بل أقول الفتنة والمحنة في دارفور ـ ولا ردود الفعل العالمية والإقليمية تبرر مثل هذه المقارنة بين حال وحال وبين القمة ولقاء القاهرة وبين توجهات وروح ومضمون قرارات الاجتماعين. وما استبنت مغزى النصح الذي يسديه الأخ الراشد وهو يدعو السودان أن يتذكر قمة شرم الشيخ، التي ـ كما قال ـ تجنبت إغضاب حكومة العراق، ونسي هو ان السودان لم يستنصر بإخوانه وأشقائه عرباً وأفارقة في جامعتهم العربية واتحادهم الأفريقي، مكابراً على باطل أو حتى متحدياً لإرادة دولية أو إقليمية، وقد قبل بقرار مجلس الأمن الأخير على علاته ولا مستدعياً الحديث الشريف «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً».

لم يعد ثمة اختلاف يذكر اليوم، بل ومن قبل، حول الهدف الحقيقي للحرب الأميركية ـ البريطانية على العراق في مارس 2003، وهو إسقاط نظام الحكم والتخلص من رئيسه حياً أو ميتاً!

ولم تعز الدولتان الذرائع، فهي تارة تدمير أسلحة الدمار الشامل، التي لم يعثر على شيء منها إلى يومنا هذا، بل لم يعد أحد يعبأ بالبحث عنها وتقصي أخبارها ومخابئها، ثم محاربة الإرهاب تارة أخرى، الذي ـ وهذا من المفارقات المفجعة ـ زرعته الحرب نفسها واستنبتته آثارها في العراق، فنما واستغلظ واستشرى في كل حي وفي كل مدينة وفي كل قضاء وفضاء بما يدمي القلوب ويفطرها.

كان نداء السودان للأشقاء في قمة الاتحاد الأفريقي الأخيرة، وفي لقاء القاهرة الوزاري الأخير لدرء مخاطر الغزو عنه والحصار والعقوبات عليه وقطع الطريق أمام التدخل العسكري القسري.. الذي لن ينقذ شيئاً ولن يحل مشكلة، بل يصب زيتاً على نار فتنة عرقية مفتعلة مصنوعة بين عرب وأفارقة في دارفور وفي السودان.

فما المطلوب من السودان؟ وما المطلوب للسودان في مثل هذه الأوضاع الدولية وأمام التداعيات الإنسانية والسياسية للأزمة في دارفور؟.. وبعض القوى الكبرى ومجلس الأمن يهددانه بالثبور وعظائم الأمور بالحصار والعقوبات الاقتصادية وبالتدخل العسكري، الذي ينطوي دائماً على الاحتلال واستدامته والإذلال ومهانته.

ما المطلوب للسودان عربياً وهو ليس أكثر مما طلب ووجد في لقاء القاهرة: المساندة السياسية أمام هذا التهديد والمساعدة الإغاثية واللوجستية لتلافي معاناة النازحين واللاجئين وبسط الأمن والطمأنينة في قلوبهم وقراهم، ثم تفعيل الشراكة العربية ـ الأفريقية، رافداً وراعياً في مساعي البحث عن حل سلمي للأزمة وللمشكلة السياسية في دارفور؟

كان المطلوب للسودان في لقاء القاهرة مثلثاً متساوي الأضلاع: رفض التدخل العسكري، حشد وتعظيم الدعم الإغاثي، ودفع الحل السلمي إلى الأمام.. وهو مثلث تطابق ـ بلغة الرياضيات ـ مع مثلث الممكن عربياً، وهذا التطابق وهذه الاستجابة حالة جديرة بالوقوف عندها والرضا بها، إذ تؤكد مرة أخرى فن الممكن في التضامن العربي وفي العمل العربي المشترك، وهو في هذه الحالة استدراك الثغرات وسد الثقوب في جدار الأمن الإقليمي العربي والأفريقي. ومن أقدار السودان، ان يكون في آن واحد العبء بما هو وبما يملك والرصيد.. أيضا بما هو وبما يملك. ولهذا، ولغيره مما لا يسعه هذا الإيجاز، فليس في قرارات وزراء خارجية الجامعة العربية في لقائهم الأخير ـ لا في روح البيان الختامي ولا في النصوص ـ شبهة تخدير أو أقراص فاليم مخدرة أو تطمين زائف أو سكوت على باطل أو مجاملة «لخرطوم اللاءات الثلاث التاريخية».

وإلا ماذا يريد الأخ عبد الرحمن الراشد من الجامعة العربية أن تفعل للسودان وهو يواجه مخاطر داخلية وخارجية تتهدد وحدته بل وكيانه.. أعلم بداهة أنه لا يريد للسودان أن يرحب بالتدخل العسكري القسري، ولا يتوقع للسودان أن يدعو لمجلس الأمن بالتوفيق والسداد في تنفيذ قراره بالتهديد بالعقوبات وبالحصار وبما خفي وقد يكون أعظم خطراً.. إلا أن السودان قد قبل بالقرار على علاته، وبالرغم من إجحافه وشرطه التعجيزي، لكنها روح المسؤولية الأخلاقية والسياسية فضلاً عن المرونة في التعامل مع معطيات الواقع لتدارك ما لحق بأهلنا في دارفور من ضرر وضرار وبالسودان وصورة السودانيين من تشويه وطمس ولا يخلو بعضه من العمد والصنعة.

* سفير السودان لدى بريطانيا