مرة أخرى.. فوبيا الإسلام في فرنسا

TT

كتب باتريك دكليرك الكاتب والمحلل النفسي الفرنسي في مقالة بصحيفة «لموند» واسعة الانتشــار بتاريخ 12 أغسطس (آب) الحالي معلنا بوضوح وصراحة من عنوان مقالته «اني أكره الإسلام».

ويذهب دكليرك في مقالته العدوانية الفجة إلى أن الإسلام دين «يجلب الجنون والعته لأنه يقيم فصلا مرضيا بين الجنسين، ويمارس القمع الرهيب على المرأة»، كما ينعته بأنه «نسق فكري يقوم على الحرب المقدسة»، ومن ثم فإن الذبح وقطع الرؤوس ظاهرتان تندرجان «في قلب الإسلام ذاته».

ويسلك الكاتب الفرنسي المذكور بهذه المقالة النهج الذي اتبعه في السنوات الثلاث الأخيرة عدد من الكتاب والإعلاميين الغربيين المشهورين، من أوريانا فلاشى في كتابها «الغضب والكبرياء» الذي نعتت فيه الإسلام والمسلمين بأفظع النعوت، والروائي ميشال هولبك الذي اعتبر الإسلام «الدين الأكثر سخافة»، مرورا بجيري فالول الذي اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم «إرهابيا»، وفرانكيلين غراهام المستشار الديني للرئيس بوش الذي وصف الإسلام بأنه «ديانة شيطانية شريرة»، انتهاء بدانيال بايبس وريتشارد برل وغيرهما من أركان تيار المحافظين الجدد الماسكين بدائرة القرار في واشنطن حاليا، الذين لا يخفون عداءهم للإسلام والتحذير منه خطرا استراتيجيا يواجه العالم الغربي في قيمه ومصالحه الحيوية.

وليس من همنا تتبع مسار تشكل هذه الصورة العدائية للإسلام في الثقافة الغربية السائدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، والتي وجهت الاهتمام بقوة إلى الإسلام عقيدة وحضارة، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن هذه الصورة تتحدد وفق ثلاثة نماذج نظرية متشابكة وإن تمايزت خلفياتها الفكرية والمنهجية.

أما النموذج الأول: فيتعلق بعلاقة الإسلام بالتقليد الكتابي اليهودي المسيحي، الذي غالبا ما يقصى منه، على الرغم من كونه خاتمة وامتدادا له.

من هذا المنظور تتأرجح المقاربة السائدة بين النكوص للأحكام الاستشراقية القديمة التي ذهبت إلى كون الإسلام إما «يهودية محرفة» أو «مسيحية محرفة»، أو النظر إليه بصفته ديانة جامدة عاجزة عن التجدد، عصية على الإصلاح في مقابل الديانتين اليهودية والمسيحية اللتين عرفتا منذ القرن السادس عشر ثورات إصلاحية متتالية مكنتاهما من التحرر من التصورات والقيم المعيقة للحداثة. وقد دافع عن هذا الاتجاه الأخير الأب موريس بورماس في كتابه حول «الحوار الإسلامي ـ المسيحي» الذي فسر فيه ظاهرة العنف الأصولي، التي تحولت إلى إرهاب مدمر، يمارس باسم الإسلام بجذور مقدسة وتشريعية ملازمة للدين الإسلامي، داعيا المسلمين إلى الاستئناس باللاهوت السلمي المسيحي، وتجربة الإصلاح البابوي، لتسهيل اندماجهم في العالم الحديث.

وكما يبين محمد أركون، فإن هذا الموقف التمييزي الإنتقائي داخل التقليد الكتابي الذي تنتمي مكوناته الثلاثة إلى نفس المنظومة العقدية (الديانات التوحيدية السماوية)، كما تنتمي لنفس المنظومة التاريخية الحضارية (الفضاء المتوسطي)، ينم عن ضحالة فكرية غير بريئة إيديولوجيا، على الرغم أن أركون يتبنى مطلب تمديد الإصلاح للدين الإسلامي من منطلقات مغايرة (الآليات والمناهج التقنية للعلوم الإنسانية المعاصرة).

أما النموذج الثاني: فيتحدد بعلاقة الإسلام بالحداثة فكرا وقيما، والتي يحكم عليها في الغالب بأنها منقطعة أو مستحيلة.

ويقوم هذا الحكم على مقاربة انثربولوجية سائدة ركزها عالم الاجتماع المعروف أرنست غلنر، وتم توظيفها على نطاق واسع في الأدبيات المتعلقة بالإسلام الصادرة في الآونة الأخيرة، وفحوى المقاربة المذكورة هي أن الإسلام دين نصي طهوري، له مضمون ثابت لا يتغير في ما وراء التحولات التاريخية والمجتمعية التي شهدها العالم الإسلامي، وهو بذا نسق مغلق محصن ضد التحديث والتطور.

وقد ردد هذا الحكم المتهافت، المستشرق العجوز برنارد لويس في كتابيــه الأخيريــن «ما الخطأ؟»، و«أزمة الإسلام»، وفيهما يرى بوضوح أن «الإرهاب الإسلامي» يفسر بموقف عصابي حاد إزاء «حداثة مستحيلة» تقتضي في العمق الانفصال عن المرجعية الإسلامية نفسها.

أما النموذج الثالث: فيتحدد بالبعد الاستراتيجي لعلاقة الغرب كمفهوم جيوسياسي بالإسلام، من حيث هو فضاء إقليمي وبشري، له عناصر قوة كثيفة تسمح له بأن يشكل التحدي المستقبلي للريادة الغربية. ومن المعروف أن هذا النموذج الذي بلوره صامويل هانتغتون قد عرف انتشارا واسعا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التي اعتبرت مصداقا لهذه الخيفة من «العدو الأخضر الزاحف».

وفق هذا المنظور، لا ينحصر العداء للغرب في المجموعات الأصولية والحركات الإرهابية المتشددة، وإنما يشمل القوى الإقليمية الصاعدة، التي تتمتع بقدرات اقتصادية وعسكرية تسمح لها بالاضطلاع بأدوار دولية هامة، (كما هو شأن باكستان وأندنوسيا مثلا)، أو بالبلدان النفطية العربية التي تتحكم في شريان الاقتصاد العالمي.

ومن أبرز من عبر عن هذا الاتجاه المفكر والسياسي الأمريكي دنيال بايبس المقرب من الرئيس بوش، الذي اعتبر في أعماله الأخيرة (ومنها على الخصوص مقاله المطول حول ما هو العدو المنشور في مجلة كومنتري عام 2002)، أن استراتيجية محاربة الإرهاب، التي تشكل حجر الزاوية في السياسية الخارجية الأمريكية منذ اعتداءات 11 سبتمبر، لا يمكن أن تؤتي أكلها من دون تحديد العدو الذي تستهدفه، ذلك أن الإرهاب تقنية للقتل وليس خصما متجسدا.

ويجيب بايبس بوضوح على هذا الإشكال بقوله ان هذا العدو هو بدون غموض «الإسلام الاحتجاجي»، موسعا دائرة هذا المفهوم في ما وراء التنظيمات الإرهابية والمجموعات الأصولية، ليشمل قرابة نصف المسلمين (الموالين للرؤية الراديكالية الإسلامية والمتواطئين مع عدائها للغرب).

وهكذا سيشمل البرنامج التنفيذي للمواجهة الأمريكية للعدو الإسلامي، حسب مقترح بايبس، «تصفية الفكر الأصولي من المقررات التربوية والإعلام في السعودية» و«مراقبة المدارس الشرعية في باكستان» و«الإطاحة بأنظمة إيران والسودان».

وغني عن البيان أن هذا التصور المشط في الخيال يقع في وهمين زائفين أولهما: ربط الإرهاب عضويا بالإسلام دينا وحضارة، واعتبار الفضاء الإسلامي الواسع المتنوع كلا متجانسا موحد الهوية والمصير.

لا بد هنا من التنبيه إلى سذاجة بعض كتابنا وساستنا الذين يكررون بزهو هذه المستنسخات الرائجة، التي ترضي الغرور بالذات، معتبرين أنها إقرار بقوة المسلمين وقدرتهم على منافسة الهجمة الغربية، وانفرادهم بالتمسك بالهوية الخصوصية، في عالم غزته الثقافة الغربية الوافدة، مما يعزز لديهم الرؤية التصادمية بالعالم.

ففضلا عن عدم صحة هذه المقاربة نظريا وفكريا، فإنها خطيرة ومدمرة عمليا، بتنزيلها معطيات الرهان الاستراتيجي الذي تحكمه مصالح ومواقع وأدوار، في مستوى حضاري وثقافي أعلى يجري استغلاله أيديولوجيا في اتجاهين إقصائيين: أصولي غربي رافض للتواصل مع الحضارة الإسلامية، وأصولي اسلاموي رافض للتواصل مع السياق الغربي الذي يمثل، شئنا أم أبينا، معين القيم الكونية الجديدة ونموذج التحديث المتاح.

لقد كتب الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشال فوكو في مطلع 1979 بحس استشرافي ثاقب: «ان سؤال الإسلام سيكون المسألة الأساسية لحقبتنا في الأعوام القادمة. ويتمثل الشرط الأول في معالجته بالحد الأدنى من التعقل وألا نبدأ بإقحام الكراهية فيه».

[email protected]