إلى أين تفضي الأحداث في العراق؟

TT

تتواصل المعارك في مختلف ارجاء العراق من دون توقف. وبدا ان الزعيم الشيعي الامام مقتدى الصدر، وافق في 18 اغسطس ( آب ) الحالي، على دعوة وفد المؤتمر الوطني، الذي قام بزيارته، لسحب تشكيلات الصدر المسلحة من النجف، إلا ان الصدر ربط ذلك بشرط مشاركته النشيطة في بناء العراق الجديد. على ان كل الدلائل تشير إلى ان شرطا كهذا يظل معلقا في الهواء. ومع ذلك، لا تتواصل المصادمات في النجف وحسب، بل وعادت المروحيات العسكرية الأميركية إلى قصف الاحياء الشيعية في بغداد، فيما اعلن النقيب برايان اوماللي، الممثل العسكري الأميركي، ان «هدف هذه العمليات يظل تصفية قوى الخصم».

وهكذا يبقى العراق بعيدا عن الهدوء والاستقرار. وتلك هي نتائج العملية العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة بدون اسباب واضحة، وبالالتفاف على الامم المتحدة، في ظل موقف بالغ السلبية من جانب الغالبية الساحقة من البلدان. وليس ذلك مجرد اشارة إلى فشل تلك العملية المغامرة، حسبما بدا، والتي اقدمت عليها الولايات المتحدة تحت تأثير المحافظين الأميركيين الجدد. بل هو فشل ايضا، لتلك السياسة التي صاغها الأميركيون بعد احتلال ذلك البلد.

أولا: ان الحكومة العراقية المؤقتة، التي شكلتها سلطات الاحتلال، لم تستطع، حسب كل الدلائل، تحقيق الاستقرار في العراق. وكان من الممكن نظريا توقع قيام الحكومة المؤقتة بالاتصال مع الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي يحظى بتأييد غالبية السكان، سعيا وراء التوصل إلى حلول وسط. لكن ذلك لم يحدث، على الرغم من ان وجود الشيعي اياد علاوي على رأس الحكومة المؤقتة، كان يمكن ان يكون مقدمة لذلك.

وكان التدخل الشخصي من جانب الصدر، والذي اسفر عن الافراج عن الصحافي البريطاني الذي تعرض لخطر الموت، يمكن ان يكون ارضية مناسبة لتحقيق الاتفاق. فقد اعلن الصدر «ان مثل هذه التصرفات لا علاقة لها بالإسلام ». واثبت الزعيم الشيعي، في ذات الوقت، مدى نفوذه وقدرته.

وقد بدا ضروريا «التمسك» بذلك، والتوصل إلى اتفاق مع الصدر، والاستفادة من هذه الفرصة الكبيرة لبدء مواجهة مع الارهابيين الذين كان ثقلهم يتزايد في العراق. لكن ذلك لم يحدث.

ثانيا: بدأ خطر تهديد وحدة اراضي العراق يظهر بوضوح، في ضوء انفجار القنابل والصواريخ الأميركية التي تساقطت على مدينة النجف المقدسة عند الشيعة، حيث ضريح الامام علي. لذا فقد هدد ممثلو السلطة التنفيذية في جنوب العراق، وليس آخرون، بانفصال « الجنوب الشيعي»، بما في ذلك مدينتا البصرة والناصرية. ولم يكن ذلك تهديدا أجوف. ففي ظل استمرار نهج الانتقام من «جيش المهدي»، يمكن ان يصبح الانفصال أمرا واقعا. فهل يفكر في ذلك القائمون على السياسة في العراق؟ هل يفكرون في ان انفصال الجنوب يمكن ان يدفع إلى ظهور وضع مماثل في الشمال الكردي؟ هل يفكرون في ان مثل هذه الآفاق يمكن ان تسفر، ليس فقط عن تقسيم الدولة العراقية، بل وعن ظهور عواقب جيوسياسية بالغة السلبية لا سيما في ظل مراعاة مصالح ومواقف كل من تركيا وايران؟.

ثالثا : جرت، ولأول مرة في النجف، تجربة استخدام وحدات الجيش والشرطة التي تم تشكيلها على عجل من العراقيين انفسهم ضد الثوار الشيعة. وقد أُوكلت إلى هذه الوحدات مهمة القوات الارضية، التي تخوض المعارك ضد المدافعين عن ضريح الامام علي. فيما قام الاميركيون بقصف النجف، بما في ذلك الاحياء السكنية، بنيران المدفعية والمروحيات العسكرية.

لقد كان من الممكن ان يكون تشكيل الجيش والشرطة الجديدين في العراق، عنصرا مهما من عناصر تسليم السلطة إلى العراقيين انفسهم. وكان الكثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور، يعتقدون بأن الولايات المتحدة، اغفلت، بعد الاستيلاء على بغداد، فرصة الاستفادة وإعادة تنظيم بعض وحدات الجيش والشرطة التي سبق وعملت في عهد صدام حسين. من اجل ماذا ؟ من اجل خلق تلك القوة القادرة على فرض النظام وإرساء الاستقرار في العراق. وذلك ما يحدث الآن، وإن كان لأهداف مغايرة.. من اجل قمع حركة المقاومة الجماهيرية التي انتشرت في ربوع العراق. ألا يدفع ذلك الاحداثَ في اتجاه الحرب الاهلية ؟. وهذا ما من شأنه ان يلحق الخسارة بالجميع.. بالعراقيين وبكل منطقة الشرق الاوسط.

في الخامس عشر من اغسطس (آب) الحالي، افتتح المؤتمر التأسيسي للبرلمان العراقي المؤقت اعماله. إلا ان ما يربو على مائة من مندوبيه غادروا القاعة فور بدء الأعمال احتجاجا على استمرار العمليات القتالية في النجف. فلم ترفض المشاركة مجموعة الصدر الشيعية فقط، بل وأعضاء لجنة علماء السنة ايضا.

فأين المخرج من الوضع القائم؟

بطبيعة الحال، لا يكمن ذلك في استمرار تكرار الحديث عن ارتكاب الولايات المتحدة خطأ تاريخيا باحتلالها للعراق. فذلك الاستنتاج امر لا شك فيه. لكن وكما يقول المثل العربي: «الفم لن يكون احلى مذاقا بتكرار الحديث عن الحلوى». فلا بد من مراعاة الامر الواقع الآن. يجب بذل قصارى الجهد كيلا يسفر الحال في العراق عن المزيد من مآسي العراقيين. ولذا ينبغي الكف عن الاعتماد على القوة، والتحول صوب المباحثات الجدية مع المعارضة، من دون اغفال، وبطبيعة الحال، من يحمل السلاح ضد الاحتلال الاجنبي، فضلا عن الدعوة إلى مؤتمر دولي يشارك فيه، ليس فقط، كل القوى العراقية، وليس الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الاوروبي وحسب، بل، الدول المجاورة للعراق ( تركيا والسعودية والاردن وسورية وايران ) ايضا، مع تشكيل حكومة عراقية وطنية قادرة على العمل.

وعلى التوازي، يصبح من الواجب على من اخذ على عاتقه جسارة الاعلان عن تقرير مصير العراق، تطوير علاقاته مع الامم المتحدة. فبدون مشاركتها النشطة، سيكون من المستحيل التوصل إلى التسوية هناك. وذلك مجرد اقتراح، لكن الولايات المتحدة تعطي الكلمة للمدافع.

* رئيس وزراء روسيا الاسبق ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»