العام والخاص.. بين السياسة والصحافة

TT

الجدل بين سكان شارع الصحافة، والساسة حول الخاص والعام، يشبه تعقيدات جدل حكاية «البيضة والدجاجة» وايهما جاء اولا. وما ان يضبط سياسي (او حتى احد المشاهير) في وضع مخل بالأدب او في موقف تحمر له وجنتا العذراء، حتى يفوق صراخه صيحات ارشميديس وهو يعدو شبه عار في شوارع اثينا «يوريكا.. يوريكا». والسياسي ـ المفضوح ـ لا يصيح لأنه وجد حل لغز نظرية جديدة، وانما لعثوره على مخرج من المأزق في المقولة القديمة: «حياتي الخاصة ملكي ولا شأن لكم بها... اتركوني في حالي ايها الصحفيون الأشقياء».

لكن الحيلة لا تنطلي على الصحفي، فعندما يكون «الخاص» مصدر رصيد جديد يضيف الى شعبية السياسي ـ خاصة في موسم الانتخابات ـ تجده عموميا جدا داعيا الكاميرات الى عقر داره.

خذ مثلا رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي يطلق كلاب حراسة مكتبه الصحفي لعقر المصورين او للتهديد بالقانون - خاصة ان عزيزة هانم (الترجمة الحرفية لاسم المدام شيري) محامية (Q.C) في النقض بدرجة «محامي استشارة المجلس الملكي»، تطالب بضرورة ترك اطفاله القصر وشأنهم وعدم نشر اي شيء عنهم، مثلما اشتكى عدة مرات لمجلس الصحافة. لكن، عندما تثير صورة اصغر اطفاله الرضيع «ليو» تعاطف الناس وتزيد من شعبيته، يطبع منها الآلاف على بطاقات المعايدة والتهنئة باعياد الميلاد ورأس السنة، ويصبح نشر اخبار اولاده «على قلبه احلى من العسل»، طالما انها ستترجم الى اصوات في صناديق الأقتراع.

درت في حلقة هذا الجدل منذ يوم الأحد باطلالة وزير الداخلية الكفيف دافيد بلنكيت علينا من الصفحات الأولى، بـ«قصة حب» شكسبيرية في ابعادها الدرامية. فمعالي الوزير على علاقة غرامية بسيدة متزوجة، وام لطفل في الثالثة، وتتوقع طفلا آخر في خلال سبعة اشهر، ورغم انها، والكلام لصحيفة نيوز اوف ذي ورلد، تحب الوزير الكفيف حبا جما، فانها مثله تتمزق بين نداء الجسد والعاطفة، وبين الولاء لزوجها، وترفض ان تتركه والطفل وتلتحق بالوزير.

وفي اليومين التاليين، كشفت بقية الصحف - والسبق للإيفننج ستاندارد المسائية اللندنية - ابعادا جديدة للدراما. فبطلة الفضيحة- الدراما - قصة الحب، هي الأمريكية كيمبرلي فورتير (والاسم لزوجها الأول) وابنة ثري لوس انجليس مارفين سولومن وزوجته الممثلة التلفزيونية ليوجين سوندرز; طموحة عملت في مجلات مثل كوزموبوليتان، وتحطم زواجها من المصرفي مايكل فورتير الذي طلقها عام 2000 (لعدم اخلاصها مثلما يقول). قابلت «كيم» الوزير الضرير بلنكيت في حفل عشاء رسمي في نهاية 2001 وكان حب «من اول لمسة»، ومن الاستحالة وقوع الوزير في الحب من اول نظرة. رغم انها كانت لا تزال «عروسة» حديثة الزواج من الرقم اثنين ستيفين كوين الذي عمل في نفس المكتب في فترة طلاقها العاصف.

وما يزيد الأمر تعقيدا، ان المدام فورتير هي المدير المساعد - على درجة ناشر - لمجلة سبكتاتور العريقة، والتي ظلت لـ 175 عاما بمثابة خزانة تفكير سياسية وإعلامية لحزب المحافظين المعارض، والوزير العاشق عمالي يساري.

وزارة الداخلية اصدرت «فرمانا» صارما بانها لا تعلق على الحياة الخاصة للوزير، فهي ملكه، واعقب فرمان الداخلية فتوى من داوننج ستريت، مكتب رئيس الوزراء، بأن الحكومة تثق بوزير الداخلية ثقة عمياء ـ ولا نقصد بهذا التعبير أي نكات او قفشات ـ اما الوزير نفسه، فرفض التعليق على الأمور الخاصة في حياته، وهدد محامي المدام فورتير وزوجها المحترم، بمقاضاة اي صحفي يستمر في «التكهن» عن امور تتعلق بالحياة الخاصة.!

ولسنا بصدد قذف حجر اخلاقي، فنحن بشر لا نملك حق اصدار الأحكام; لكن اي صحفي يرفض رفضا باتا، ان يصدق دموع تماسيح وزارة الداخلية، او الفتاوى الملقاة على شارع الصحافة من بيوت داوننج ستريت الزجاجية. فقبل كشف الفضيحة بايام صعد وزير الداخلية منبر الفضيلة والمثل العليا، ليطلب من الشعب حسن السير والسلوك والتقدم بمشروع قانون تغريم كل من يلقي بعود ثقاب على الرصيف، وسجن الأب الذي «يزوغ» ابنه من المدرسة، والحكومة تقتحم علينا البيوت، وتصدر لنا التعليمات بكيفية تربية اولادنا. ولذا لا تستطيع الصحافة ان تترك وزيرا في حكومة العمال، التي تلوح برايات الفضيلة والمثل العليا، وتروج بانها حكومة «القيم الأسرية»، يقيم علاقة غرامية مع سيدة متزوجة وام لثلاث سنين، دون ان تفضح سيادة الوزير الذي يحاول ستر عورته السياسية بورقة توت «حياتي الخاصة ملك لي».

السبب الآخر ان حكومة بلير اقنعت الناخب باختيارها قبل سبع سنوات، عقب سلسلة من الفضائح الأخلاقية او الـ sleaze ، والتعبير الأقرب للذهن هو «البوظان الميري» - حسب التعبير المصري القديم بان كل شيء حكومي او رسمي هو (ميري) يسعي الموظف «للتمرغ في ترابه» - بانها، أي حكومة بلير، تحمل سيف «الجهاد» ضد هذا «البوظان الميري» الذي كان المسمار الأخير في نعش حكومة المحافظين السابقة.

اما حامل المطرقة الذي دق المسمار في النعش، فكان المليونير المصري محمد الفايد فاضحا «بوظان ميري» المحافظين بكشف انه كان يستأجر الوزراء واعضاء البرلمان بارسال «الكاش» لهم في شكل اوراق بنكنوت من فئة الخمسين جنيه - ما بين خمس الى عشرين ورقة في كل مظروف، حسب ثقل السياسي، في مظروفات «ميري» بنية اللون لتوجيه اسئلة معينة في مجلس العموم، تسبب احراجا للحكومة، او تفجر تكهنات بين المحررين الاقتصاديين فتؤثر على السوق. وعندما حاول وزراء من الحكومة السابقة والنواب مقاضاة الفايد، انفرجت اساريره مقدما عظيم ما خفي من الأدلة، فكانت زوبعة نزعت ما بقي من اوراق التوت لتكشف مظروفاتهم البنية اللون حاملة بصماته.

لكن اين رئيس الوزراء بلير وعزيزة هانم ساعة مفاجأة الوزير بلنكت وهو في حالة غرام ساخن.

كانا يصيفان «مجانا» عند رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني، وهو الآخر يثير حنق الايطاليين بسبب ترويج امبراطوريته الإعلامية لصورته بشكل «زهق الناس»، لدرجة ان احدهم وضع قنبلة قرب الفيلا التي ينزل فيها آل بلير يوم الخميس، مبلغا الكربينيري بأن المقصود هو برلسكوني ولا احد غيره. وصل بلير والهانم لفيلا برلسكوني من اجازة نزلوا فيها ضيوفا ـ ببلاش طبعا ـ على المغني الشعبي السير كليف ريتشارد في ضيعته في جزر الهند الغربية.

ويذكر الناس قضاء بلير (والعيلة) اجازات الشتاء وبضع اجازات الصيف ضيوفا على «الحكومة المصرية»، مما يعني احالة فاتورة اجازة آل بلير على دافع الضرائب المصري، ولولا يقظة الصحافة البريطانية، ورفضها ورقة توت داوننج ستريت بان اجازات اسرة بلير هي شأن اسري خاص يجب عدم الخوض فيه اعلاميا، لما استل رئيس الوزراء دفتر الشيكات ودفع ثمن تذاكر السفر والإقامة في الجيزة ومصايف البحر الأحمر. ونرجو ان تكون الشيكات قد وصلت غايتها المقصودة، وهي جمعيات خيرية مصرية، ولم تضل الطريق في مسالك «الميري» المصرية، والتي لا خريطة طريق لها منذ بداية العهد الجمهوري، الذي نزع اظافر تنقيب الصحافة المصرية، وطعمها بمصل يقي انوف محرريها من الروائح غير المستساغة، مثل رائحة الفساد ورائحة «البوظان الميري».

ويجرنا الحديث عن الشيكات والتبرعات الى اول صدام لحكومة العمال الجديدة مع نفسها، فالحكومة التي صدعت الناس بعادة الإقلاع عن التدخين لأخطاره على الصحة، سمحت باعلانات عملاقة للسجاير في سباقات السيارات «فورميولا وان» لصاحبها المليونير ييرني ايكلستون الذي تبرع بأكثر من 11 مليون جنيه للحملات الانتخابية لبلير وحزبه العمالي الجديد.

اما التبرعات الأخرى، فالمسؤول عن جمعها كان مهندس استراتيجية العمال، بيتر ماندلسون، الذي ضبط هو الآخر في فضيحة مالية استقال بسببها، ثم اعاده بلير للوزارة ثقة بكفاءته. وبعد عودته صادق الأخوة هيندوجا، وهم مليونيرات هنود تكاثرت علامات الاستفهام حول معاملاتهم المادية ونفوذهم السياسي، وتبرعوا لحزب العمال، فمنحهم باسبورات بريطانية، دون الالتزام بطابور وزارة الداخلية، ودون ان يكون لهم مساهمة واضحة في الحياة الأقتصادية للبلاد، في حملة كرم منحت الباسبورات لكل من هب ودب، ماعدا المليونير المصري محمد الفايد، المقيم في بريطانيا منذ عقود، وصاحب الدور العظيم في دعم الاقتصاد، وتوفيره مئات الآلاف من فرص العمل لمن يعولون الأسر البريطانية. وكيف يمنح الباسبور لصاحب سوابق في فضح الساسة المرتشين؟ فالسياسي الناجح لا يلدغ من مظروف بني اللون مرتين.