جينات الديمقراطية

TT

بمناسبة الأولمبياد العالمية المعقودة في اليونان، عرضت شبكات الراديو والتلفزيون في الغرب شتى البرامج عن تاريخ الاغريق وحضارتهم. كان منها سلسلة عن الاساطير الميثولوجية. لفتت نظري منها اسطورة جانسن في رحلته الصعبة المحفوفة بالمخاطر الى بلاد القفقاس. وفيها واجهت نفس السؤال الذي حيرني طيلة حياتي: هل يحمل الغربيون جينات خاصة تحثهم على تبني الديمقراطية وحرمنا نحن الشرقيين منها؟

في هذه الاسطورة يطالب الفتى جانسن بالعرش بحكم ولادته. ولكنهم يقررون ان مجرد ولادته لا تكفي لتسليمه العرش. عليه ان يثبت كفاءته وأهليته له باظهار شجاعته وحكمته وقدراته. يشترطون عليه الذهاب الى القفقاس والحصول على الصوف الذهبي منها وجلبه الى أثينا. يعطونه سفينة وفريقا من البحارة ومرافقا له، هركليس البطل. يقود الاثنان السفينة الى البحر الأسود بقيادة مشتركة. وتبدأ السفينة بمواجهة اخطار مهولة. يقرر البحارة ان مواجهة الاخطار تقتضي قيادة موحدة يتولاها فرد. هذه أول بذرة من الحياة الديمقراطية. البحارة، وليس القادة، هم الذين ادركوا هذه الحقيقة وطالبوا بها. يجب ان يتنحى اما جانسن او هركليس عن القيادة المشتركة ويترك الأمر للآخر.

من منهما اصلح للمهمة؟ كان هركليس الاكبر سنا والاكثر خبرة ويمثل البطولات القديمة (العنتريات)، بمقابله كان جانسن يمثل الجيل الجديد بأفكاره الجديدة. من منهما أصلح لقيادة السفينة؟ هنا نواجه الخطوة الديمقراطية في أول مراحل نشوئها. يطرح الموضوع على البحارة ليدلوا بأصواتهم. يفعلون ذلك وتأتي الاصوات في صالح جانسن. مثل القرار الميثولوجي رغبة الشعب الاغريقي للانتقال الى مرحلة جديدة من الحكم المدني يقودها الجيل الجديد. لقد انتهى عهد البطولات المتمثلة بالجيل القديم، جيل هركليس وآغاممنون ويوليسيس ومن لف لفهم. تستعرض الاسطورة هنا الايمان بالتطور الديناميكي للمجتمع.

تنتقل الاسطورة الى فكرة اخرى من قواعد الحكم الديمقراطي. عندما فرزت الاصوات واتضح ان جانسن فاز بالأكثرية، تنازل له هركليس عن القيادة الكاملة ونزل من السفينة وتركها له. لم يتمرد او يتحدى القرار او يشكك فيه. ومضى جانسن في الرحلة المغامرة التي اظهر فيها قدرته وذكاءه وحكمته وشجاعته وعاد بالصوف الذهبي وتسلم الحكم. لا أحد يستطيع ان يحدد متى صيغت وكتبت هذه الاسطورة بالضبط، ولكن احداثها الخرافية ربما تعود الى ألف سنة قبل الميلاد، أي الى العصور التي كان فيها الحكم في الشرق ينتقل بالسيف والمؤامرات وغدر الأخ بأخيه، كما فعل المأمون بالأمين بعد قرون من الحكاية الاغريقية.

الطريف في الاسطورة ايضا دور المرأة وحبها. فلم يكن بامكان جانسن في الاخير وضع يده على الصوف الذهبي لولا وقوع ميديا، ابنة ملك القفقاس في حبه وبالتالي مساعدته في مهمته. وكافأها الفتى على حبها بأن اخذها معه الى أثينا لتصبح ملكة على الاغريق. دور المرأة وحبها الصافي عنصر اساسي في معظم الاساطير والحكايات الفولكلورية الأوربية.

www.kishtainiat.com