مقتدى الصدر لن يكون إلا ملا عمر بهيئة جديدة..!

TT

كل المؤشرات والأدلة باتت تشير الى أن العراق، في ضوء ما يجري وما يتلاحق يومياً، ذاهب، إذا لم تقع معجزة، إلى وضع كالوضع الأفغاني، الذي تداخلت أحداثه وتشابكت عشية الاحتـلال السوفياتي وخلاله وبعده، فوصــل بالنتيجة الى محنة حكم «طالبان» ومأساة الاحتلال الاميركي الراهن، الذي لا يعرف أحد إلى أي مدى سيصل وإلى أي نهاية سينتهي.

لقد بدأت الأمور وكأن تلك الأحداث المتعاقبة قد تلاحقت في أفغانستان بالصدفة، وكانت البداية أن الجنـرال داوود قد انقلب على ابن عمه الملك ظاهر شاه، ثم انقلب نور الدين طرقي على هذا الانقلاب وصـاحبه، ثم انقلب الشيوعي المتـزمت حفيظ الله أمين، الذي تلقى تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة، على رفيق دربه وقتله شر قتلة، ثم جاء بابراك كارمال قائد حزب «برشام» المتشدد لينقلب على حفيظ الله أمين.. وهكذا الى أن وصلت «الأمانة» المميتة الى نجيب الله الذي أخرجته حكومة «طالبان» من مبنى الأمم المتحدة في كابول، والذي كان لجأ إليه بعد اندحار القوات السوفياتية، وانهيار حكمه ونفذت بحقه حكماً بالإعدام بلا قضاة ولا محاكمة.

لا تختلف مجريات أحداث العراق المتلاحقة، والتي تزداد تعقيداً يوماً بعد يوم، إلا في التفاصيل الدقيقة والحيثيات الثانوية، أما الصورة العامة فإنها، ورغم تباعد الأمـكنة والأزمنة، تبدو واحدة. فالنتائج انتهت، هناك وهنا، الى أن تنظيمات مذهبية وطائفية متطرفة لا تملك أي برنامج للحكم سوى الشعارات، تواجه حكومة «علمانية» مدعومة بقوة عظمى كانت، بالنسبة لأفغانستان، الاتحاد السوفياتي، الذي كان القوة الكونية الثانية الكبرى، وهي الآن، بالنسبة للعراق، الولايات المتحدة، التي هي القوة الوحيدة الأكثر تفوقاً في الكرة الأرضية كلها.

لم يفكر الأميركيون، وهم يخططون لإغراق السوفيات في المستنقع الافغاني، كما غرقوا هم في مستنقعات وأدغال فيتنام، بمستقبل هذه الدولة المتخلفة أصلاً، والتي زادتها الحروب الأهلية تخلفاً على تخلف. وكان همهم الاستراتيجي الوحيد ينحصر في إلحاق الهزيمة بعدوهم الاول، الذي هو الاتحاد السوفياتي، وتوجيه ضربة قاصمة للشيوعية العالمية التي باتت تعاني، في ذلك الوقت المبكر، مـن انحناء عمودها الفقري، ومن أوجاع وأمراض اخرى كثيرة.

ولهذا فإن الولايات المتحدة، وما أن تمكنت من تهشيم أنف هذا الخصم وإلحاق الهزيمة الاستراتيجية التاريخية به، حتى بادرت الى مغادرة أفغانستان، وعلى عجل، غير آبهة لا بمصيره ولا بمستقبله، وغير مُقدِّرة لخطورة ان تتمكن تنظيمات متناحرة، يقودها زعماء قبائل تحولوا الى أمراء حرب وتجار مخدرات، من الوصول الى حكم بلاد مدمرة ومهشمة وبلا أي برامج غير الشعارات الفضفاضة العريضة.

لقد كانت هناك إمكانية، لو ان أفغانستان بالنسبة للأميركيين لم تكن تعني مجرد ميدان مواجهة مع الاتحاد السوفياتي، لإيجاد «توليفة» معقولة للحكم لسد الفراغ، الذي كانت نتيجته تلك الحرب الأهلية المدمرة، الذي نشأ بعد انهيار الحكومة العلمانية، التي وإن كانت من صنع الاحتلال، إلا أنه كان بإمكانها أن تعطي للبلاد ملامح دولة عصرية، وكانت مؤهلة بالإشتراك مع قوى أخرى، لتجنيب هذه الدولة الاسلامية، التي ابتليت بما لم تبتل به دولة في العالم، وهو حكم «طالبان» الذي لا مثيل له في التخلف والرجعية، والذي أعادها عشرات القرون الى الخلف، ويلات بقيت تتلاحق فيها حتى الآن.

لم يكن الأميركيون يفكرون إلا في اللحظة الراهنة، ولذلك فإنهم وضعوا كل بيضهم، ووضعوا معه أموالاً وإمكانيات عربية وإسلامية ودولية كثيرة، في سلة مجموعة التنظيمات التي كانت بمعظمها غارقة في انتماءاتها القبلية والمذهبية، والتي لم تكن تجمعها إلا كلمة «الجهاد» الفضفاضة. ولذلك فإن حكم أفغانستان، التي تقلبت فوق ألسنة نيـران الحرب الأهلية، قد انتهى الى عصابات «طالبان» التي حولت تلك البلاد الى قاعدة للإرهاب الدولي الذي استهدف أصدقاء الأمس. وعلى غرار ذلك المارد الأسطوري السحري الذي ما أن أخرجه صاحبه من القمقم حتى هجم عليه محاولاً أكله.

والآن فإننا إذا استبدلنا بعض الرتوش برتوش أخرى تلائم المرحلة، وتنسجم مع الحيثيات والمعطيات الجديدة، فإننا نجد ان هناك أدلة واحتمالات كثيرة تشير الى أن ما جرى في أفغانستان قد يتكرر في العراق، وخلال فترة قريبة، فالأميركيون عندما جاءوا الى هذا البلد بجيوشهم وحلفائهم في العام الماضي، لم يحملوا معهم، كبديل لحكم صدام حسين الذي أطاحوه في التاسع من إبريل (نيسان) عام 2003، إلا شعار الديمقراطية، وتقارير أحمد الجلبي التي ثبت انها كانت كاذبة ومضللة، ولا ترتكز الى أية حقائق على أرض الواقع، ولهذا فالنتيجة كانت الوقوع في ذلك الفراغ الذي هو السبب الرئيسي لكل هذه الويلات والمآسي.

كان همّ الأميركيين، ليس مستقبل العراق وتجنيبه قبل ذلك الوقوع في هاوية الفراغ المفضي إلى الحرب الأهلية المذهبية المدمرة، بل قطع رأس صدام حسين وإسقاط نظامه. ويقيناً لو أن الرئيس بوش ورموز إدارته لم يكونوا على كل ذلك المستوى من الحمق، لما تصرفوا بالطريقة التي تصرفوا بها، ولاستخلصوا نتائج كثيرة من الدرس الأفغاني، ولما دفعوا هذا البلد، الذي لم يكن جائزاً التصرف معه بطريقة التصرف مع إحدى جمهوريات الموز، الى ما هو عليه الآن من غموض وتعقيد ومأساوية.

لقد دفع الإيرانيون بهذا الشاب مقتدى الصدر، الذي لا يملك إلا رصيد عائلته في التقوى والجهاد والمكانة الدينية والاجتماعية، والذي تعوزه الخبرة وتنقصه المعرفة بالنسبة للعبة الدولية، الى ميدان المعركة بلا أي تصور، وبلا أي برنامج للحكم. والطامة الكبرى هنا هي ان يتمكن من إفشال هذه الحكومة «العلمانية» المؤقتة التي هي فرس الرهان الأخير، والتي ستكون نتيجة إفشالها كنتيجة إسقاط حكومة نجيب الله، التي كان من الممكن ان يكون بقاؤها أهون الشرور، لو ان الأميركيين كانوا يملكون الحد الأدنى من النظرة المستقبلية لأفغانستان، ولو أنهم لم يرتكبوا خطيئة النظر الى الأمور من زاوية العين الحولاء المصلحية الضيقة.

سيتكرر ما جرى في النجف في مدن ومناطق كثيرة في العراق ما دام ان القوى الإقليمية المذكورة آنفاً، التي تتناغم معها بعض القوى الدولية، وإن بمجرد الكلام والتشجيع، مصممة على دفع العراق الى ما كانت إندفعت إليه أفغانستان وما دام ان الهدف الرئيسي هو إرباك الاميركيين وحملهم على الرحيل والمغادرة بغض النظر عما سيحل بهذه البلاد بعد ذلك وحتى وإن كانت النتيجة تجربة كالتجربة الأفغانية.

إن صورة العراق في هذه المرحلة تشبه والى بعيد صورة أفغانستان عشية إنهيار حكومة نجيب الله «العلمانية» ورحيل الجيوش السوفياتية. فبدل حكمتيار وسياف ورباني وباقي أمراء الفصائل «المجاهدة»، هناك مقتدى الصدر والشيباني والسوداني وجيش المهدي. ويقيناً إذا زلَّت قدم الأقدار وكان مصير حكومة علاوي كمصير حكومة نجيب الله، وكانت نهاية الوجود العسكري الاميركي في العراق كنهاية الوجود العسكري السوفياتي السابق في أفغانستان، فإن هذا البلد سيتحول الى بؤرة جديدة للإرهاب الدولي والإقليمي، وستدفع الدول المساندة ما دفعته الدول التي احتضنت ذات يوم الظاهرة «الجهادية» الأفغانية.

لنتصور ماذا سيحل بالعراق لو ان حكومة إياد علاوي، التي هي رغم سلبياتها الكثيرة خشبة الخلاص الوحيدة والأخيرة، انهارت في لحظة من اللحظات قبل ان تنجز مهمتها بتسليم البلاد الى حكومة دائمة منتخبة بطريقة ديمقراطية. ولنتصور ماذا سيكون البديل إذا تبع هذا الانهيار المفترض، وعلى الفور، رحيل القوات الاميركية، وكل ذلك في ظل عدم وجود قوة رئيسية قادرة على ملء الفراغ وقادرة على السيطرة على الاوضاع، وتجنب ما كانت وقعت به أفغانستان عندما انهارت حكومة نجيب الله، ورحلت الجيوش السوفياتية منهزمة وبصورة كيفية.

لا توجد هناك أية قوة بديلة قادرة الآن على ملء الفراغ، ومنع البلاد من الانجرار الى الحرب الأهلية المدمرة. وهذا معناه ان انهيار هذه الحكومة، ورحيل القوات المحتلة، سيؤديا حتماً الى حكومة كحكومة «طالبان»، والى رئيس كالملا عمر. وغير مستبعد إذا انتصر جيش المهدي وأصبح مقتدى الصدر رئيساً لجمهورية إسلامية عراقية ان ينتقل أسامة بن لادن بإرهابه وقواعده الى بلاد الرافدين، ليجاور العديد من الدول التي زرع فيها الموت والدمار، بحجة إقامة شرع الله وتخليص مقدسات المسلمين مـن براثن قواعد وقوات الكفار.