كتابات للصيف ـ اللزوميات الأربع

TT

يحكم على اهل السفر ان يتعاملوا في بلد الوصول مع اربع فئات من الناس: سائق التاكسي، وشغالة الغرف، والبقال، وما يسمى في فرنسا «الكونسييرج»، وهو خليط من بواب وحارس وسيدة لا ترى ابداً عند مدخل المبنى، وإذا اسعفك الحظ ورأيتها كان لها رد واحد على كل الاسئلة: «لا اعرف انا». فإذا اسقطت قطعة ورقية ما على مكتبها اضافت على الفور: «ومع ذلك، دعني احاول».

القاسم المشترك بين هؤلاء السادة والسيدات هو الاختصاص. السائق يوصلك الى العنوان من دون ان يعرض عليك بيتا للايجار. والشغالة تنظف الغرفة، وتكوي الغسيل، وتحمل المياه المعدنية، من دون ان تطلب منك قرضاً مدرسياً او وظيفة لابنة عمها. والبقال يمارس مبتسما مهنة اللصوصية الصيفية واقتناص الموسم، لكنه لا يطلب منك تعيين ابنه في الدرك. و«الكونسييرج» عندما تكون في مكانها، لا تنصحك بمطعم ابن شقيقها بل تقول لك دائما: «لا اعرف انا» وتقلب شفتيها ونظارتيها وتختفي خلف الباب، بانتظار موعد ظهورها المقبل.

امضيت عمرا وانا احاول ان اقنع زوجتي بالفارق، او الفوارق، بين السائق البريطاني والسائق اللبناني. الاول يسألك عن العنوان ثم يغلق على نفسه النافذة الزجاجية ويمضي. والثاني يسألك عن العنوان ثم يكتشف ان له اقرباء في الجوار. ثم يتطلع اليك ويسألك بحنان «ألم اوصلك الى هناك من قبل»؟ والجواب المؤدب هو «ربما» لكنه لا يقبل بالاحتمال جوابا. انه اهانة لذاكرته: «كيف ربما، استاذ؟ انا اكيد، مثل ما شايفني وشايفك». ومسكين جنابك، اذا كنت تظهر احيانا على التلفزيون، وتعرف حضرته اليك: سوف يشكو لك الحال الاقتصادية. وسوف يطلب منك ان تفعل شيئاً ما بخصوص الحكومة، كاسقاطها مثلا، وسوف يعرض عليك رأيه في حل الازمة المعيشية.

تسمي زوجتي هذا كله «حرارة العاطفة الانسانية» بعكس برودة الغرب، حيث لا يهتم كل امرئ الا بأمره الشخصي. واصر انا على ان «البرودة» الغربية هي نتاج تراكم مدني والتعلم على احترام خصوصيات الغير. اما نحن فقد نشأنا في مجتمع جواري او جيراني اذا صح التعبير. او التعبيران. نعرف من رائحة المطابخ ماذا سيأكل جيراننا اليوم. ونعرف من صوت التلفزيون أي مسلسل يتابعون. ونعرف من تكرار الاغنية الواحدة لعمرو دياب ان ابنة الجيران مغرمة بالشاب في المبنى المقابل، لكنه يتجاهل تسلم الرسالة، تاركاً لأهل الحي الاهات والتنهدات.

نحن لا خصوصية لنا. لقد تحدرنا الى المدن من ثقافة «الحوش» عندما كانت القرى تبنى، البيت ملاصقاً للاخر، خوفاً من الذئاب والوحوش. ولا ادري ان كنا نحن من نقل هذا التصميم الى الاسبان ام اننا نقلناه عنهم. ولكن مضى زمن «الحوش» والذئاب ولم نستعد خصوصيتنا بعد. وانا مع «برودة» السائق اللندني الذي يسألني في المطار عن العنوان المقصود، ثم يغلق النافذة، ولا يعود يقول شيئا الى ان نصل، فيساعدني في حمل الحقيبة، ويقرأ العداد للتأكد ويشكر ويمضي ولا يعرض بيت ابن عمه للايجار.