الإسبان والجاحظ والإنكليز

TT

ذات يوم عدت الى منزلي الأبوي فوجدت عمتي تنتظرني وعندها حكاية يرددها اهل الحي جميعا: المعلمة الفرنسية التي تستأجر عند الجيران ذهبت الى اللحام واشترت شريحة واحدة من اللحم. وظنّها اللحام تمزح. لكنها لم تكن تمزح. كان ذلك منتصف الستينات. وحاولت ان اشرح لعمتي ان الفرنسيين خرجوا قبل قليل فقط من حرب دمرت بلادهم، واحرق النازيون ثرواتها، واذلوا اهلها، ولعلهم قرروا ألا يجوعوا مرة اخرى.

وفي منتصف الثمانينات كان ابني يذهب الى المدرسة الفرنسية في لندن، وكانت لدى زوجتي قاعدة ذهبية خلاصتها ارضاء المعلمة بكل الوسائل. وذات يوم طلبت مني ان اكون في البيت بعض الظهر، لأنها دعت معلمة الصبي الى الشاي، هي وابنتها الكبرى. وجلسنا نصغي للمعلمة بتواضع. اولا، لأنها من العرق الآري، وثانيا لأنها الست معلمة الصبي. وخلال الحديث نظرت السيدة الى ابنتها الكبرى وقالت ان «جويل» تزورها في لندن منذ شهر. وهمهمنا بتقدير وتطلعنا الى «جويل» بابتهاج، ثم اكملت الأم، بكل حنان، انها لن تتقاضى من «جويل» قرشا واحدا ايجار الغرفة! وهمهمنا باعجاب: شهر كامل من دون ايجار، لماذا هذا البذخ؟

في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» يتشاجر زياد الرحباني مع زوجته ثريا حول بخل الاوروبيين من زبائن المطعم. هي تقول الانكليز، وهو يصر على الاسبان: «عم قلّكِ الاسبان ابخل. شو فهمّك انتي»! سألت مرة رجلا اسكوتلنديا عن سبب سمعة البخل، فقال: «نحن شعب يعيش في اقسى الظروف الطبيعية، ونعمل طوال العام ثلاثة الى اربعة اشهر. ويجب ان نعيش باقي السنة على جني فصل واحد! نحن رفعنا شعارا يقول: «اصرف ما في الجيب، يأتك ما في الغيب». وكنت اعتقد ان الحرب سوف تعلم اللبنانيين الحرص، لكن لحظة انتهت انصرفوا جميعا الى المطاعم. وما فات عمتي في روايتها اننا لم نكن نشتري اللحم بالشريحة بل بالكيلو، لأن جميع اهل الحي كان يشترون «بالقيد»، أي بالدين الى آخر الشهر، اذا اتى.

والحكايات عن بخل الاسكوتلنديين كثيرة، لكن يجب ألا ننسى ان بخلاء الجاحظ كانوا جميعا من العرب، عاربة او مستعربة، واعتقد ان الاسوأ من الحرص الاوروبي هو التبذير العربي. ولست اعرف مائدة في مطعم عربي لا يرمى نصفها. ولكن ايضا اشعر بالخجل عندما ادعى الى منزل ثري واكتشف ان عددا من المدعوين لا يزال يبحث عبثا عن قطعة اضافية من الكبة، او ان حصتي من السلطة لا تتعدى ثلاثة ورقات من الخس ونسمة من الطماطم. وقد يكون ذلك نوعا من الحرص المبالغ فيه لكنه بالتأكيد نظام صحي جيد، واذا قدر لنا ان نحظى بدعوات كثيرة من هذا النوع، نوفر الذهاب الى المصحات. فالشبع هذه الايام هو المشكلة لدى البعض. وللأسف لا يزال في العالم فقر كثير وحاجة كبرى. لكن عدد الطبقات الميسورة تضاعف في انحاء العالم. وبصرف النظر عما اذا كان التلفزيون قد خرب الحياة العائلية ام لا، فعندما جاء الى لبنان اواخر الخمسينات كان في كل حي بيت واحد فيه تلفزيون. والآن في كل غرفة، في معظم البيوت. وأول ما يلفت النظر في البيوت الفقيرة في العالم العربي، الغسيل المنشور على السطوح الى جانب الدش. ولعلهما واحد.