دارفور.. مشكلة قديمة ألهبها نظام الإنقاذ بسياسات حمقاء

TT

لا أحسب أن أي نظر موضوعي لقضية دارفور، وقد أصبحت الآن في مقدمة الأجندة الدولية وأحد الهموم اليومية لدى كبار الأسرة الدولية، يمكن أن يكتسب الشمول والموضوعية، من غير وقفة مع منظومة من حقائق التاريخ والجغرافيا، ومن بعد على أخطاء الحكومة السودانية، وبعضها فادح وباهظ الأثمان، وعلى صلة بوصول هذه الأزمة الى هذه الحالة الماثلة من التدويل.

اذا كان السودان كله كإقليم لم يكن متجانسا في تركيبته، بقدر ما هو مجموعة من المناطق التي تتفرد أي منها بمجموعة من الخصوصيات، فلدارفور وأهلها قدح معلى في منظومة الخصوصيات، وهي خصوصيات تلقي بظلالها على نسيج الأزمة الحالية، وأحسب أن في ذاكرة ووجدان أهل دارفور مرارات ومرارات، وهم يسترجعون خصوصياتهم، وخاصة التاريخية منها، حين ينكفئون عليها، ويضاهونها بواقع اليوم الذي وجدوا أنفسهم فيه مهمشين وبعيدين عن صناعة القرار.

فالذي يقرأ تاريخ السودا ، لا بد أن يتوقف مع حقائق تغذي كلها حالة من التفرد، ومعها حالة من علو الأنا لدى أولئك القوم. فدارفور كانت سلطنة وفي كثير من الأوقات أقوى من سلطنة الفونج التي عاصرتها في أواسط السودان. ودارفور لم يتمكن محمد علي باشا من غزوها الا عام 1875 أي بعد 56 عاما من غزوه للسودان عام 1821. ودارفور تحررت في الثورة المهدية عام 1882، في حين لم تتحرر سلطنة الفونج الا عام 1885، ودارفور كانت من بعد السند الأساسي للسودان خلال مجاعة 1886 الشهيرة، وهي التي لم يضمها الاستعمار الانجليزي بعد غزوه للسودان بحملة كتشنر عام 1898 الا بعد نحو 18 عاما عام 1916 لتلتحق بخريطة السودان بوضعها الحالي.

تلك حقائق التاريخ، أما حقائق الجغرافيا، وحين تتداخل مع التاريخ، فهي الأخرى لها نصيب في هذه الأزمة الماثلة، وإن كان نظام الحكم الحالي قد صب زيتا على بعض جمرها ليحيله الى نيران مشتعلة. فدارفور الكبرى عرفت كثرة النزاعات القبلية والنزاع على الموارد بحكم تركيبة أهلها القبلية ونوعية احترافهم للزراعة. تجدر الإشارة هنا الى أن الغالبية العظمى من أهل السودان يحترفون الزراعة، بشقيها الآلي الحديث والتقليدى الرعوي والمطري. ولا بد أن أشير هنا الى أن الشق الأول (الآلي الحديث) قد ظل ومنذ عهود الاستعمار وانتهاء بالحكومات الوطنية المتعاقبة، يحظى بنصيب الأسد من مدخلات الانتاج والخدمات الاجتماعية واستثمارات الدولة، في حين أن هذا القطاع لا يمثل أكثر من 30 في المائة، في مقابل 70 في المائة للقطاع المطري والرعوي، وقد أحدث ذلك فجوة قائمة في مستويات العيش وأنصبة الثروة، فاستتبع ذلك خللا بنيويا انعكس على مستويات التنمية، ومعها على مؤسسات الدولة ومؤسسات اتخاذ القرار، وحصص الإقليم من المشاركة السياسية. أضف الى ذلك أن الحكومات الوطنية، ديموقراطية وشمولية، لم تعط مشكلة الخلل البنيوي هذا اهتماما، ولكني وللتاريخ يمكن أن استثني حكومة السيد الصادق المهدي في الديموقراطية الثالثة من ذلك التوجه، فقد اتجه لتشكيل حكومة يمكن اعتبارها الى حد كبير مرآة لأهل السودان، ويكفي أن أشير هنا الى أبناء إقليمي كردفان ودارفور قد تبوأوا مناصب في السلطة المركزية وفي مواقع سيادية وقيادية، فكان هناك بكري عديل وزيرا للتربية والتعليم، وموسى مادبو وزيرا للطاقة ومحمود جماع وزيرا للري وبشير عمر وزيرا للمالية والاقتصاد واسماعيل أبكر وزيرا للثروة الحيوانية، أضف اليهم علي حسن تاج الدين عضوا في مجلس رأس الدولة.

ولكن شاهد القول يفضي الى أن المرارات كانت قد ترسبت وتصاعدت بعد الاستقلال بقليل، لتفرز لاحقا حركات سياسية جهوية من قبل مجيء نظام الانقاذ الحالي، مثل حركة سوني بدارفور وحركة جبال النوبة والصخرة السودانية ومؤتمر البجا في شرق السودان. ولكن النظام الحالي أسهم في تغذية المرارات كما أسلفت. ومن غير تطويل، أكتفي بواقعة واحدة أختارها كرمز لعامل الفساد الاداري والمالي في هذا النظام الذي غذى قضية دارفور. وأرى هنا أن الواقعة تركت أثرا في نفوس أهل دارفور، وهي واقعة طريق الإنقاذ الغربي، الذي سوقت الحكومة لفكرته ومن ثم تمويله باستقطاع حصص من حصة السكر الخاصة بأقليم دارفور وتوجيهها مع بعض الاستقطاعات الضريبية لصالح قيام ذلك الطريق الذي لم ير النور الى يومنا هذا، فيما التهم الفساد كل أرصدته المالية، فاستشعر أهل دارفور الظلم ولسان حالهم يقول: هو نظام حكم يحرمنا التنمية حتى حين نستقطع تكاليفها من غذائنا وجيوبنا. وقد تصاعدت تلك المرارات حين عاشت الجبهة القومية الاسلامية انقساماتها مع صراع البشير وعلي عثمان مع حسن الترابي، مما أدى الى انقسام في المؤتمر الوطني استصحب لجوء جناحيه الى أن يجعل من دارفور موقعا لتصفية الحسابات والاستقطاب، فزاد ذلك من تعقيد المشكلة، وهي التي تغذت أصلا مع سنوات الإنقاذ بغياب الديموقراطية والتعددية التي كانت تمتص الكثير من حالات الاحتقان، قبل مجيء الانقاذ، بوجود منابر ومنافذ للتعبير، فجاء انقلاب الإنقاذ ليغلق دور الأحزاب ويوقف النشاط السياسي على تنظيم واحد الى حوالي عام 1999، في مقابل الاعتداء على البنية الإدارية التي طالما ساهمت في معالجة الأزمات والصدامات العارضة بين القبائل على موارد المياه والكلأ. وقد انفتحت عبقرية أهل الانقاذ هنا على الغاء نظام نظار القبائل وخلع لقب الأمير عليهم شريطة ولائهم للحزب الحاكم، فيما تمددوا في الادارة المدنية وسيسوها. ويقول سجل أهل الإنقاذ هنا إنهم أعادوا تقسيم السودان كله فرفعوا عدد الأقاليم فيه من 9 الى 26 ولاية، ومن 19 محافظة الى121، ومن 126 محلية الى 674، فكان أن اختلت بنية المنظومة الإدارية في دارفور، وتعقد حالها مع التسييس الذي فرضته الإنقاذ على حساب منهج قومية الخدمة المدنية الذي كان سائدا. أضف الى كل ذلك دخول البطالة بين شباب الإقليم كعنصر جديد، فخريجو المدارس لم يجدوا فرص عمل لأن ذلك كثيرا ما يستصحب شرط عضويتهم في حزب النظام الحاكم. وتقول دراسة للاستاذ آدم الزين إن جحافل الخريجين من أبناء الإقليم وجدوا أنفسهم أمام خيارات محدودة تنحصر بين الهجرة الى المدن والعيش على هوامشها كمشاغبين أو الانضمام الى عصابات النهب المسلح، وهذا دليل آخر على أخطاء نظام الإنقاذ الذي لم يربط التعليم باحتياجات السودان بما في ذلك إقليم دارفور، فحدث ما يعرف بالفاقد التربوي أمام زهد الكثيرين في مواصلة تعليمهم بعد المرحلة الابتدائية وهم يشاهدون المصير الذي واجه من يتقدم منهم في مراحل تعليمه.

وشاهد القول هنا أن النظام الحالي، وبسياساته الخاطئة والتمادي فيها، أدى الى ما يمكن أن نسميه تفريخ العنصرية والقبلية والجهوية في الاقليم. أضف الى ذلك إشاعة النظام لثقافة العنف وقد قال رئيسه علنا إنهم استولوا على هذا الحكم بقوة السلاح، ومن أراد أن يستعيده فليستعده بالسلاح.

أما على صعيد كيفية الخروج من هذه الأزمة، فذلك يستدعي وقفة أخرى، ولكني أمام ضيق المجال، أسجل أنه كان بوسع الحكومة حل هذه القضية بوسائل سلمية قبل وصولها الى هذه المرحلة من تكبيد أهل السودان وأهل الاقليم أكثر من مليون نازح و30 ألف قتيل، وذلك من خلال استيعاب دارفور في إطار حل شامل في نيفاشا، وتحويل محادثات السلام مع حركة قرنق من محادثات ثنائية الى مفاوضات قومية يشارك فيها كل أهل السودان لإعطاء قضية محورية مثل السلام زخمها الشعبي المطلوب. والسبيل الى ذلك مؤتمر وطني قومي تشارك فيه كل القوى السياسية، ليضع الأساس لتحول ديموقراطي حقيقي، يؤسس هو الآخر لتداول سلمي للسلطة، ينال عبره كل إقليم حقه في السلطة والثروة. ذلك لأن ثنائية الحل لكل قضية، والتي اتخذتها الحكومة فيما يبدو منهجا، هي التي صعدت الأمور بعد نيفاشا لتخرج قضية دارفور على هذا النحو، وهي ذاتها التي يمكن أن تخرج لنا مشكلة مماثلة في شرق السودان.

ولعلم الحكومة السودانية أقول إن مشكلة تداعيات أزمة دارفور وإن انحصرت حاليا في الحدود الجغرافية للاقليم، إلا أن أفقها القريب، وإذا لم تجد حلا سياسيا عادلا، سيرشحها لأن تمتد بلهبها الى كل السودان. فأبناء دارفور موجودون بالملايين في كل أقاليم السودان بدءا بالعاصمة الخرطوم، ومرورا بولايات الوسط، وانتهاء بشرق السودان، ومن الوارد جدا أن يشعلوا توترات أخرى إذا ما استمر تعاطي الحكومة مع قضيتهم ومطالبهم بمثل هذه الدرجة من المناورة والمداورة على النحو الذي نشهده مع قضية الجنجويد (مثلا)، وهي مليشيات صنعتها الحكومة وتحاول التبرؤ منها الآن.

وأخيرا، فدارفور أزمة معقدة، وستلقي بظلالها على مستقبل السودان ووحدته، وبالتالي فإن حلها لن يكون الا بالحديث عن كل ما ظل مسكوتا عنه وبالتعامل مع الحقائق بأفق واسع، لا يقف عند هذا التشبث من نظام الإنقاذ بالتمسك بالسلطة والتمادي في سياسة إقصاء الآخر.

* لواء متقاعد بالجيش السوداني ووزير الدفاع في حكومة الصادق المهدي الأخيرة