قبيلتان متناحرتان

TT

في الحياة الثقافية العربية حرب خفية لا يعترف بها أحد بين الصحافة والجامعات، لكن ورغم الانكار يمكن رصد بارودها ودخانها على أكثر من صعيد، وخصوصا في مجال النقد الأدبي.

هذه النوعية من العداوات لم تكن ظاهرة أوائل القرن الماضي، فقد كان الاكاديميون والأدباء في زمن العقاد ونعيمة وأحمد أمين هم رجال الصحافة، وما أن وصل القرن الى نهايته حتى تبدلت الصورة وصار الاعلام بعد ان تكاثر اختصاصيوه يختلف تماما عن الثقافة الأدبية التي طبعت سابقا جميع المجلات والجرائد بطابعها.

لقد أوقع سوء الحظ أمثالنا على خط التماس بين القبيلتين المتناحرتين اللتين تمارس كل منهما بشكل أو آخر وصاية خفية أو مستترة على القبيلة الأخرى، وهذا ما يجعلنا نحس بتلك الحرب الخفية التي يستخدم بها كل طرف أقوى أسلحته.

الأكاديميون يدعون العمق ويتهمون نقاد الصحافة بالسطحية، فيرد هؤلاء بالقول ان الفئة الأولى متقعرة وغير مفهومة ولأني أنتمي لهؤلاء واؤلئك أجد التهمتين تتبعاني كظلي مهما كان المعسكر الذي أقف فيهإ فإن كنت بين أكاديميين قالوا: فيك سطحية الصحافيين وخفتهم وإن كنت بين الأخيرين اتهموني برواسب من التقعر الأكاديمي لم أستطع التخلص منها.

شخصيا أفتخر بيني وبين نفسي بالحالتين فقد علمتني الصحافة رشاقة الاسلوب وأخضعت لغتي لريجيم قاس جعلني أعرف كيفية التخلص من الزوائد والحواشي التي تفسد أي جهد مهما كان جليلا وعميقا.

ومن صفات الزمن الأكاديمي السعيد ما زلت أحرص على البحث والتدقيق في المعلومات ومحاولة تعميق الأفكار في وسط إعلامي كان الى وقت قريب يعادي المعلومة ويحتقر العودة الى الأرشيف، ففطاحله يكتبون من الرأس للقارئ مباشرة من دون حاجة لقراءة أو بحث أو تدقيق، فهم الأحفاد العظام للقلقشندي صاحب كتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» وبعض أنواع صحافتنا مع الاحترام لكل الجهود والاقلام إن جردتها من الانشاء لا يظل امامك بعد الأخبار والصور غير صفحات بيضاء من غير سوء.

لقد كان النقد الأكاديمي في زمن طه حسين وزكي مبارك مقروءا ومؤثرا وظل كذلك الى عهد قريب ثم أصيب بالسكتة القلبية واختفى بين أسوار الجامعات بعد أن فقد الرؤية العصرية وتحجر وصار اجترارا لا جدوى منه ولا فائدة، وأكبر دليل على ذلك أن أفواجا كثيرة من الخريجين في مختلف البلاد العربية تترك الجامعة من دون سلاح نقدي أو معرفة بمدارسه وتياراته، وأحيانا تتخرج من دون قدرة على التحليل أو التذوق.

أما الصحافة فقد خرجت في البداية نقادا يعتد برؤيتهم وأسلوبهم منهم أنور المعداوي ورجاء النقاش ومحمد كامل الخطيب ثم أصابتها (الصحافة) اللعنة هي الأخرى فتخلت عن أفقها الحر، وصارت تتعصب لمدارس و تيارات بعينها وما أن صارت بعض المنابر الاعلامية تحت تأثير تلك التيارات التي أقصت الجميع حتى انحدر مستوى النقد الصحافي ليصير بيانا آيديولوجيا، علاقته بالأحزاب أمتن وأشد من علاقته بالفنون.

وقلب الطرف أنى شئت هذه الأيام فلن تجد في نقد القبيلتين المتناحرتين ما يستحق القراءة إلا عند الفئة الناجية التي عرفت كيف تبسط أدوات النقد الأكاديمي وتطوعه لأسلوب الصحافة ومن هذه الفئة عبد الله الغذامي الذي قفز من مركب النقد الأدبي الى سفينة النقد الثقافي، مستفيدا في هذه النقلة من تجربة نقاد ومبدعين عالميين كبار على غرار رولان بارت وامبرتو ايكو وغيرهما من الذين أخرجوا النقد من أسوار الجامعات الى رحابة فضاء الثقافة العامة حيث لا يرحب الجمهور بالتقعر ولا يسمح المناخ بأي شكل من أشكال الوصاية على الذائقة.