الهجوم على أميركا: بسبب ما هي عليه..أم بسبب ما تفعله؟!

TT

«لن انسى ما حييت!» هذه كانت عبارة كثيرا ما سمعتها عندما زرت نيويورك، بعد فترة قصيرة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي أطاحت برجي مركز التجارة العالمي.

وجاء ذلك من سيدات كبيرات في السن اغرورقت عيونهن بالدموع، وهن ينظرن الى بقايا (الغراوند زيرو)، أي الطابق صفر، التي كانت ما تزال قائمة. وجاءت أيضا من الشباب مسرعي الخطى ممن قالوا انهم يتوقفون كل يوم للصلاة على أرواح الموتى. وأكد رئيس البلدية رودي جولياني ذلك، كما فعل العاملون في استعلامات الفنادق وسائقو سيارات الأجرة، ومحررو «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«نيويورك بوست».

كيف يمكن لامرئ أن ينسى مثل هذا الحدث؟ هناك في التاريخ لحظات تحتفظ، أياً كان العمق الذي تدفن عنده تحت ركام السنين، بمكان في ذاكرة الناس.

ولكن الذاكرة خداعة. فهذه القضية ليست أننا نتذكرحدثا ما. فذكرياتنا تعاد صياغتها بالقصص التي يجري عبرها التعبير عنها، وما يهم هو الكيفية التي نتذكر بها الحدث.

ففي البداية أثار هجوم الحادي عشر من سبتمبر الشك بين الأميركيين. فقد كان صدمة مفاجئة. وشأن الأحداث الأخرى، التي لا يمكننا أن تقيمها وتحفظها أرشيفاتنا الذهنية، لم يكن لهذا الحدث تفسير جاهز. وكان السؤال عن سبب حدوثه غير ذي صلة بالموضوع تقريبا، شأن السؤال عن سبب وجود الهزات الأرضية والطاعون والأعاصير، بل والموت نفسه.

وبعد ايام قليلة، وبحلول الوقت الذي جاء فيه الرئيس جورج دبليو بوش لزيارة (الغراوند زيرو)، أدى الشك إلى ولادة الغضب. وكان هذا غضبا فجا عارما، من ذلك النوع الذي لو أن الولايات المتحدة لم تكن نظاما ديمقراطيا ناضجا، لتحول الى أعمال شغب وهجمات عشوائية على شعوب وجماعات يوجه اليها اللوم في حدوث المأساة.

ولأن هناك على الدوام شيئا ما خيرا، حتى في أسوأ الأحداث، فان هجمات الحادي عشر من سبتمبر منحت الأميركيين احساسا بالوحدة القومية، لم يكن لهم ليمروا به لأجيال عدة. فلعقود عدة كان الأميركيون يشعرون بأن بلدهم قوي وغني، الى الحد الذي لا يحتاجون فيه الى قرع طبول الوحدة لمواجهة المحنة.

وبعد ثلاث سنوات ما يزال كل الأميركيين تقريبا يؤكدون انهم يتذكرون الحادي عشر من سبتمبر.

ولكن السؤال هو: ما الذي يتذكرونه ؟

بشكل عام، أدخلت أحداث 11 سبتمبر ثلاث وجهات نظر في النفسية الأميركية.

الأولى والأكثر شيوعا: وجهة نظر حول هجوم لم يسبقه استفزاز قام به جماعة من المتعصبين ممن يكرهون أميركا على ما هي عليه.

والثانية: حول هجوم نفذه أفراد عبروا عن مظالم، بحاجة إلى معالجة في مرحلة ما وبشكل ما. وفي هذه الصورة هوجمت الولايات المتحدة، ليس بسبب ما هي عليه، وإنما بسبب ما تفعله.

أما وجهة النظر الثالثة، المستندة الى نظريات المؤامرة وسوقها نصابون مثل مايكل مور، فلم تكن لتستحق الذكر، لولا الحقيقة المفزعة من أن كثيرا من الأميركيين يبدون مصدقين لها. وعلى أية حال دعونا نتجاهل وجهة النظر هذه، لأنها لا يمكن إلا أن تقودنا الى متاهة من الأكاذيب والتخيلات.

اذن، ماذا عن وجهتي النظر الأولى والثانية؟

فهل تعرضت اميركا لهجوم لما هي عليه ام لما تفعله؟

الرئيس بوش ومعظم الجمهوريين يفضلون التصور الاول.

ففي خطابه في نيويورك في الاسبوع الماضي، لقبول ترشيح الحزب له لانتخابات الرئاسة، وصف جورج دبليو بوش الولايات المتحدة بأنها «امل المقهورين، واقوى قوة من اجل الخير في الارض»، ولمح الى ان هؤلاء الذين هاجموا اميركا يمثلون الشر العالمي. ويفضل هؤلاء هذه النقطة، ويشيرون الى الحرية التي يستمتع بها الاميركيون، وانفتاح مجتمعهم، والتسامح المنتشر في الولايات المتحدة لكل المعتقدات واساليب الحياة، وبالطبع الثروة الاميركية والتقدم العلمي المفروض ان يثير غيرة «قوى الشر».

اما البعض الآخر، مثل نانسي بلوسي زعيمة الحزب الديموقراطي في مجلس النواب وغيرها في معسكرها، فيؤمنون بوجهة النظر الثانية: ان الولايات المتحدة تتعرض لهجمات لما تفعله. بل ان بيلوسي قارنت بين اسامة بن لادن زعيم جماعة القاعدة الارهابية، «بمؤسسي اميركا» الذين، كانوا، طبقا لها، متعصبين دينيين».

وتقدم الذين يفضلون وجهة النظر هذه، بقائمة من «الاخطاء» الخيالية او الحقيقية، التي ارتكبتها الولايات المتحدة مثل: تأييد اسرائيل ضد العرب، رفض الانضمام إلى اتفاقيات كيوتو البيئية، دعم النظم الديكتاتورية اليمينية مثل انستاسيو سوموزا، بينما تضرب النظم الديكتاتورية اليسارية من امثال فيدل كاسترو، فيما تعمقت في التاريخ، واشارت الى القتل الجماعي للاميركيين الاصليين، واضطهاد العبيد السود واسلافهم.

لقد حاول التقرير النهائي للجنة الكونغرس التي شكلها الرئيس بوش لفحص أسباب مأساة 11 سبتمبر، ان يعبر عن وجهتي النظر. ونتيجة لذلك، فإن التقرير يعتمد على تحليلات خاطئة ويقدم استراتيجية دفاعية، اذا ما تم تطبيقها، يمكن ان تجعل الولايات المتحدة اكثر عرضة لهجمات ارهابية.

ولكن ماذا لو أن وجهتي النظر هما وجهة نظر واحدة؟

أليس من الممكن القول ان الولايات المتحدة تفعل ما تفعله لانها هي ما هي؟

فقبل 2000 سنة قال ارسطو ان الشخصية هي الفعل.

وبكلمة اخرى: انت ما تفعله وما لا تفعله.

ولذا ما هي الولايات المتحدة؟

الرد الابسط هو كالآتي: هي القوة العالمية الوحيدة، من منطلق ان ما تفعله وما لا تفعله، تمثل بهما تأثيرا اساسيا على معظم جوانب الحياة الدولية. فهي اكبر سوق في العالم. وركود محدود في الاقتصاد الاميركي يمكن له أن يقضي على ملايين الوظائف في اكثر من مائة دولة. وفي الوقت ذاته، فهي الدولة الوحيدة ذات القدرة العسكرية والسياسية التي يمكن ان تميل كفة الميزان في معظم القضايا. بالتالي فمما لا يثير الدهشة أن نعلم ان الولايات المتحدة طرف في كل الازمات الناشطة او شبه الناشطة في العالم، كضامن لاتفاقيات سلام هاشة.

ومن نافلة القول، الإشارة الى ان الجميع يريدون استخدام القوة الاميركية لمصلحتهم.

والى ذلك فالبعض يرى الولايات المتحدة مثل غوريلا ضخمة، مفيدة في حمل الاثقال، ولكنها تثير الشك حين تصدر حكما على شيء من تلقاء نفسها. فبعض العرب يشعرون بالالم، لأن الولايات المتحدة لا تسمح لهم بالقضاء على اسرائيل من على الخريطة، فيما يشعر بعض الاسرائيليين بالالم، لان الولايات المتحدة ليست على استعداد، لدعم عمليات الطرد الجماعية للفلسطينيين من الضفة الغربية. والهنود يشعرون بالامتعاض من ان أميركا لا تسمح لهم بتعليم الباكستانيين درسا، فيما يشعر الباكستانيون بالاسي، لانها لا تبيع لهم الاسلحة التي يمكن ان ترجح كفة الميزان ضد الهند. وملالي طهران يكرهون أميركا لانها لن تسمح لهم بخلق امبراطورية خمينية صغيرة في المنطقة، فيما يكره انصار الشر اميركا، لانها ترفض التقدم نحو طهران لاسقاط رجال الدين. وهناك سلوبودان ميلوشوفيتش، وغيره من الصرب مرتكبي القتل الجماعي، البعض منهم في السجن والبعض الاخر هارب، يعلمون انه بدون التدخل الاميركي، لم يكن لأحد أن يوقف التطهير العرقي الذي نظموه.

وفي افغانستان، فطالبان وبارونات المخدرات ورجال الدين المتعصبون الذين ازدهرت اوضاعهم، يعلمون انهم لولا التدخل الاميركي لاستمروا في السلطة في كابل. والبعثيون يعلمون انه لو لم تتوجه اميركا نحو بغداد، لبقي صدام حسين يحكم من واحد من قصوره، بدلا من حل الكلمات المتقاطعة في زنزانته بالسجن.

والنتيجة المنطقية لنظرية ان اميركا تعرضت لهجوم بسبب يعود الى ما تفعله، يعني تسليم السياسة الاميركية الى الاعداء والنقاد. ومن هنا فاذا ما علمت هجمات 11 سبتمبر الاميركيين درسا، فهو عدم السماح بوقوع ذلك.