في المغرب العربي.. طوق النجاة تدلى من طائرات الموت

TT

إلى جانب التأثيرات العامّة والانعكاسات المتقاربة في حجم الأضرار، والاختلاف في مستوى تلقي صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001، فإن تزايد المسافة الزمنيّة الفاصلة بيننا وبين تاريخ الهجمات، يساعدنا على النظر في بعض التفاصيل الكبيرة بشكل أفضل، وأيضا تقصي كيفيّة معالجة أثر تلك الهجمات، وقياس نسبتي النجاح والإخفاق، لا سيما أنّ الطابع الفجئي والحامل لصدمة خارقة للصدمات، جعل المواقف الأولى للدول العربية، رغم توحدها الظاهر في الإدانة، فاقدة لرؤية سياسية واضحة، ومرتجفة، وهو ما أدّى إلى غياب آفاق سياسية بعيدة المدى.

ومع ذلك، فإن المسافة الزمنية التي بدأت تتسّع من سنة إلى أخرى، أظهرت أنه رغم التوحد الظاهر في إدانة هجمات 11 سبتمبر، فقد اعتمدت كل دولة عربية آلية تفكير سياسي خاصّة في مقاربة تلك الهجمات. بل إن اختلاف الضغوطات التي تعانيها الدول العربية، أدّى إلى تأزم هرمي ساهمت في تحديده معطيات جيوسياسية بالأساس.

لذلك، فإن نظرة بانورامية تشمل الدول العربية ما بعد هجمات 11 سبتمبر، ستكشف أن الأوضاع مختلفة، وذلك قياسا لمقدار القرب من فوهة البركان. فالاشكاليات التي عرفتها مصر والسعودية وسوريا مثلا، ليست هي نفسها التي شهدتها منطقة المغرب العربي. ورغم أنه يصعب وصف المغرب العربي ما بعد 11 سبتمبر، لأنه بصدد إعادة الترتيب على نار معتدلة، تسير ألسنتها صوب اتجاهين متلازمين، فإن انقضاء ثلاث سنوات على تاريخ الهجمات، يظهر أن غيوما عديدة بدأت تنقشع، وأن الرؤية في وضوح متزايد.

وازدواجية السياسة الامريكية تشمل الدول العربية، وتدل على مفارقة أفرزتها هجمات 11 سبتمبر، ذلك أن الانحسار الذي حصل في الحريات داخل الولايات المتحدة الأميركية، بحجة تأمين الأمن القومي، قابلته في الخارج دعوات للديمقراطية وللتنمية السياسية ولتوسيع المد الإصلاحي. وإلى حد الآن، ما تزال الدول العربية تتخبط في هذا المأزق، وتعيش الرفض والقبول في ذات الوقت. ويظهر أن الأنظمة السياسية الحاكمة في كل من تونس والجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا، قد جعلت من الدعوة الأميركية للإصلاح خاصّة وهادئة، وفي لحظات سياسية معينة غائبة. فالنخب السياسية الحاكمة في المغرب العربي أحسنت قراءة الوضع سياسيا وأدركت أن دعوات المد الإصلاحي ليست أكثر من جواز سفر سياسي إلى المنطقة.

زد على ذلك أن نجاح الأنظمة المغاربية السياسية في إظهار إدانتها للإرهاب شفويا وعمليا، رفع أسهمها لدى البيت الأبيض، فأظهر بدوره مرونة واستعدادا لتعميق «الصداقة». ويمكن القول، إن ردود فعل الأيام الأولى لما بعد 11 سبتمبر، هي التي حددت العلاقة الأميركية ـ المغاربية، وهي التي ضبطت لها إيقاعها وآفاقها.

من ذلك أن ليبيا، التي اشتهرت بعدائها للولايات المتحدة الأميركية، شهدت انقلابا في عدائها. حتى أن القذافي كان أول الرؤساء المغاربة الذيين سارعوا بالإدانة، وأعلن عن حملة لجمع تبرعات الدم لفائدة ضحايا ضربات 11 سبتمبر، إضافة إلى تطوعه بتقديم معلومات استخبارية تخص تنظيم القاعدة وبعض الجماعات الإسلامية.

وفي سياق الإدانة المغاربية للإرهاب، وإثبات الأنظمة المغاربية بشكل تنافسي بأنها حليفة للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، أعلن المغرب الأقصى عن كشف خلية نائمة تابعة لتنظيم القاعدة كانت تنوي استهداف مصالح أميركية في المغرب والمياه الدولية.

وبحكم حسن وسرعة استيعاب الأنظمة السياسية في المغرب العربي للرسالة الأميركية السياسية المستبطنة، فقد تمكنت من حصد بعض النتائج المؤقتة، فوصف كولن باول في جولته المغاربيّة التي شملت المغرب وتونس والجزائر هذه البلدان بالحليفة والصديقة، مع مدح التقدم الحاصل في تونس، ووصف المغرب أيضا بالنموذج. بل إن باول، الذي بدا واضحا تحيزه للأنظمة في جولته تلك، على حساب جماعات المعارضة، اكتفى في الجزائر، خلال مؤتمر صحافي، بالقول إن بلاده تشجع انتصار الديمقراطية في المنطقة. وهو ما يؤكد مرة أخرى، أن الدعوة للمد الإصلاحي ورقة ضغط استعملتها أميركا لتحقيق أقصى ما يمكن من الرضوخ لمستلزمات الحرب على الإرهاب، التي دعمتها النخب السياسية المقاربة، بما تملك من معلومات ومن خبرة في التعاطي مع الملفات الإسلامية.

من جهة ثانية، أظهرت بعض الأنظمة السياسية المغاربية مهارة سياسية خاصة، عندما جمعت بين صورتين اثنتين: صورة المساندة للحرب على الإرهاب، وصورة المتضررة منه. وقد ساعدتها الصورة الثانية في التشبه بعض الشيء بأميركا (خاصة فيما يتعلق باضطرارها للتراجع في مجال الحريات)، وإقناعها بأن تجاوز الخط الأحمر في الإصلاح السياسي في المنطقة المغاربية يتضارب، جزئيا، وأهداف الحرب على الإرهاب. فالجزائر، الضحية رقم واحد للإرهاب في شمال أفريقيا، تتمتّع بأحقية تاريخية في إدانة الإرهاب، ذلك أنها اكتوت بناره طيلة عقد كامل، بل إن حصيلة القتلى الجزائريين بسبب الإرهاب التي تجاوزت 120 ألفا، تساوي عدد ضحايا هجمات 11 سبتمبر 15 مرة.

وحتى المغرب، الذي لم يعش في تاريخه المعاصر العمليات الانتحارية، شهد ما عرف بتفجيرات الدار البيضاء يوم 6 ماي (مايو) 2003، التي قام بها مغاربة شباب، وأسفرت عن 40 قتيلا وعشرات الجرحى.

إضافة إلى أن تونس، البلد الأكثر أمنا والأكثر نجاحا في معالجة ملف الإرهاب، رغم قربه من حدودها، شملها الإرهاب من حيث لا تدري، وذلك من خلال انفجار وقع قرب كنيس يهودي بجزيرة جربة يعود تاريخه إلى 586 قبل الميلاد. علما بأن قرابة ألف يهودي يعيشون في جزيرة جربة.

ومن خلال هذه الحوادث، تدعمت صورة المغرب العربي المتضرر من الإرهاب، وبالتالي تمت استمالة الولايات المتحدة الأميركية نحوها، الأمر الذي جعل القوى المعارضة والداعية لإرساء الديمقراطية، تعيش خيبات صغيرة طيلة السنوات الثلاث الماضية، وإن ترافقت هذه الخيبات مع إشراقات خافتة. فإلى حد الآن، أبدت الأنظمة السياسية المغاربية إجادة في العزف على وتر الإرهاب لمواصلة كبح جماح المد الإصلاحي، وتأجيل موعد حلوله، أو على الأقل للتقطير في تحققه. وسنرى في المواعيد المقبلة لذكرى هجمات 11 سبتمبر، إلى أي مدى ستنجح هذه الأنظمة في مزيد العزف، وتلافي أوتار أخرى قد تعزف ضدها ؟

* كاتبة تونسية