التناقض الإيراني حول البرنامج النووي

TT

لا يزال البرنامج النووي الايراني يثير الجدل. ففي الثالث من هذا الشهر قال وزير خارجية هولندا ـ رئيسة الاتحاد الاوروبي ـ بن بوت ان اوروبا لا يمكنها السكوت وايران تطور اسلحة نووية، واعتمد بذلك على تقرير صادر عن الامم المتحدة يظهر ان ايران تخطط لتطوير اطنان من اليورانيوم الخام، الامر الذي اثار شكوك العالم بان الجمهورية الاسلامية تسير في اتجاه انتاج اربعة الى خمسة رؤوس نووية. ايران لم تنف ما جاء في تقرير الامم المتحدة لكنها اوضحت ان الوكالة الدولية للطاقة النووية على علم بذلك، واصرت على ان برنامجها النووي هو لانتاج الطاقة الكهربائية وليس لانتاج قنابل نووية.

والاسبوع الماضي، وقبل اجتماع مديري الوكالة الدولية للطاقة النووية (بدأ يوم الاثنين)، وجهت بريطانيا ما يشبه الانذار الى ايران، بان لديها حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر) كي تكشف بالكامل عن برنامجها النووي والا دعمت الدول الاوروبية قرارا دوليا بفرض الحصار التجاري على ايران كما تطالب واشنطن.

اثر هذا «الانذار»، وفي لقائه الاسبوعي مع الصحفيين قال الناطق باسم الخارجية الايرانية حميد رضى آصفي، ان المحادثات الايرانية مع الاوروبيين تدور «في جو ايجابي»، مضيفا ان هناك تعاونا جيدا ما بين ايران واوروبا والوكالة الدولية للطاقة النووية وان هذا التعاون سيستمر «لكننا نعرف ان الولايات المتحدة تحاول ان تظهر ان المحادثات غير مثمرة من اجل اطالة الأزمة».

لم يكن الانذار البريطاني شديدا، ذلك ان لندن تؤمن بسياسة الحوار وهي مع اصغائها الى قلق واشنطن الا انها تتمتع بثقة ايات الله الحاكمين في ايران. ثم ان الاوروبيين يعتقدون ان فرض عقوبات على ايران سيقطع كل الجسور معها وقد يدفعها فعلا الى الاسراع في مشاريعها العسكرية لتصنيع القنبلة النووية، ثم ان الدول الاوروبية ترتبط بعقود تجارية مغرية مع ايران ـ الدولة النفطية الغنية.

وبدورها، ورغم الضغوط والتهديدات، لم تصل بعد واشنطن الى حد التهديد القاطع، وقد قال جون بولتون مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون النووية (توجه نهاية الاسبوع الماضي الى اسرائيل لمقارنة تطابق معلومات الطرفين حول النشاطات النووية الايرانية): «ان الرئيس جورج بوش مصر على ايجاد حل سلمي وسياسي للمشكلة الايرانية الناتجة عن متابعة ايران انتاج اسلحة نووية، لكننا مصرون على عدم السماح لها بالحصول على قدرة تصنيع اسلحة نووية» ثم اضاف: «ان عرض القضية الايرانية امام مجلس الامن لا يعني بالضرورة فرض حصار عليها، فالسبب الرئيسي لذلك هو تكثيف الضغوط السياسية عليها».

وبدوره استخف آصفي الناطق باسم الخارجية الايرانية بخطر قيام اسرائيل بهجوم على مفاعلات ايران النووية واعتبره: «نكتة سمجة وحربا نفسية»، وقال: «ان لدى اسرائيل تقييما كاملا لقدراتها وقدراتنا، وهي تعرف انها اذا لجأت الى مثل هذا الهجوم فسوف ينتج عنه رد حاسم ونهائي ضد النظام الصهيوني».

وكانت ايران اطلقت في 11 آب (اغسطس) صاروخ شهاب 3، لكن بيان وزارة الدفاع الايرانية الذي اعقب تلك التجربة لم يشر الى التحسينات التي اضيفت الى النسخة السابقة التي كان يصل مداها الى 1500 كيلومتر، وكشف يومها وزير الدفاع الايراني علي شمخاني ان «النظام النووي الدفاعي الايراني سوف يتحسن هو الآخر»، واعتبر ذلك اول تأكيد لمسؤول ايراني بان نظام بلاده الدفاعي قائم على قوة نووية. لكن عاد شمخاني ليوضح: بان القوة لا تعني «اننا تواقون الى الحروب، كما ان طريق السلام لا تعني تقديم تنازلات».

ان ايران ترسل الكثير من الاشارات المتناقضة الى العالم حول برنامجها النووي، ويربط بعض المراقبين السياسيين بين هذه الاشارات واهداف ايران في العراق، وان الحكم في ايران يحاول ان يغطي على ازمة داخلية وتجنب ازمة دولية في الوقت نفسه، ففي السابع من هذا الشهر اتصل وزير الخارجية الايراني كمال خرازي بنظيره الاسباني معبرا عن امله في ان يتخذ مجلس مديري الوكالة الدولية للطاقة النووية (تترأس اسبانيا الاجتماع) قراره معتمدا على الحقيقة. وفي اليوم نفسه افادت وكالة «رويترز» بأن ايران وافقت مبدئيا على تجميد بعض انشطتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم. وفُسر هذا، بأن تراجع القيادة السياسية في ايران عن مواقفها التصادمية يعود الى ادراكها بانها فقدت آخر اوراق نفوذها في العراق ولم تعد باستطاعتها المحافظة على موقفها الحاد تجاه برنامجها النووي. اما كيف يمكن ربط هذه المواقف ببعضها، فان مراجعة مختصرة لما جرى ويجري على الارض في العراق، توضح ذلك:

اثر سقوط نظام صدام حسين في نيسان (ابريل) 2003، اعتمدت ايران على ثلاثة عناصر عراقية: احمد الجلبي، وآية الله علي السيستاني، ومقتدى الصدر. وكان هؤلاء بنظرها يشكلون اقنية خلفية لـ«اتفاق» بينها وبين الولايات المتحدة يؤدي الى قيام عراق جديد تحت سيطرة شيعية. لكن منذ انتفاضة الصدر الاولى التي تزامنت مع تمرد المثلث السني، بدأت ايران تشهد تساقط هؤلاء من فلكها وتراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها بقيام عراق شيعي لا يثور ضد اميركا. لقد فقد الجلبي ثقة حلفائه الاميركيين بعدما اتهم بانه يعمل مع الاستخبارات الايرانية، واصر السيستاني على عدم الدوران بالفلك الايراني، وتأكد هذا عندما فشلت انتفاضة الصدر الثانية في شهر آب الى ادخال السيستاني في ذلك الفلك، لا بل على العكس قرر الصدر الدخول في العملية السياسية العراقية ليضمن مستقبله.

وحسب مصادر مطلعة، فقد بدأ الطيران الاميركي يخرق الاجواء الايرانية، لتزيد واشنطن من ضغوطها على طهران كي تراجع استراتيجيتها، ثم سمحت الولايات المتحدة بان تلتقط الاستخبارات الايرانية معلومات تشير الى انكباب البنتاغون على وضع خطط لقصف جوي اميركية مكثف على المنشآت الايرانية النووية وبعض البنى التحتية الاساسية، وحسب هذه المصادر المطلعة، فقد اعتقدت طهران ان واشنطن تمارس الخداع، لهذا كثرت التصريحات المتشنجة واصرت ايران على مماطلتها في التفاوض، لكن بلغها ان ادارة بوش لن تتردد في توجيه ضربة جوية موجعة، ولن تنتظر بالتالي حتى تملك ايران فعلا السلاح النووي، فأبدت، عبر شبكة من الاقنية الخلفية، استعدادها للتفاوض، من هنا جاء بيان الرئيس بوش بان ادارته ستسلك الطريق الديبلوماسي مع ايران في ما يخص برنامجها النووي، وقد اكد ذلك وزير الخارجية الاميركي كولن باول يوم الاحد في برنامج «واجه الصحافة»، بان بلاده تفضل التوصل الى تفاهم سلمي مع ايران للتوقف عن برنامجها النووي.

المصادر تقول ان واشنطن تريد شيئا ما من ايران ولا تريد الاستمرار في تهديدها، وقد يكون هذا الشيء له علاقة بمنع الصدام بين ايران واسرائيل! ولانها تعرف ان التوجه الايراني يقوم على خطوة الى الامام وخطوتين الى الوراء، فهي دفعت الدول الاوروبية الى التحرك باتجاه دعم صدور قرار دولي من مجلس الامن لفرض عقوبات على الجمهورية الاسلامية.

داخل ايران هناك مراجعة للسياسة التي اعتمدت وأدت الى خسارة الهدف الرئيسي لامتداد النفوذ الايراني، وهو العراق، ولن يتوقف سياسيوها المخضرمون عن اصدار التصريحات المتناقضة حول البرنامج النووي، فهذا يضمن بقاء النظام تماما كما الحال مع كوريا الشمالية، ولان جيلا من الشبان المتشددين يتهم الحرس القديم بانه فشل. وبدورها ستظل واشنطن، بمساعدة الدول الاوروبية، تشاغل طهران حتى تشرين الثاني (نوفمبر)، موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية، ومن ثم سوف تصغي لبعض النصائح الاوروبية بتمديد «المشاغلة» الى كانون الثاني (يناير) المقبل، أي الى حين الانتهاء من اجراء الانتخابات العراقية، وعندها قد تتغير اوضاع اخرى كثيرة في الشرق الاوسط.