قراءة في أثر الإرهاب على أمن الطيران المدني

TT

تفجير طائرتين روسيتين في هجومين انتحاريين، واختطاف مجموعة من الاريتريين لطائرة ليبية إلى الخرطوم الأسبوع قبل الماضي، يعيدان إلى الأذهان التحدي الكبير الذي ما يزال يواجه حركة الطيران حول العالم منذ حادثة «بان أميركان» التي انفجرت نهاية العام 1988 فوق لوكيربي باسكتلندا. والى ذلك يعتبر قطاع النقل الجوي، وبأشكاله المختلفة، اكثر نشاط اقتصادي انعكست عليه ظلال وتداعيات أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما أعقبها من كوارث إرهابية حول العالم. فذلك القطاع لا يقتصر على نقل الركاب وأمتعتهم فقط، ولكنه يتصل بشبكة مترابطة من الخدمات المساعدة من مؤسسات التأمين وخدمات المطارات وحركة السياحة وأسواقها الحرة وحرية انتقال الأفراد. وما زالت الشركات الخاصة والعامة تبحث سبل التغلب على الأزمة المالية، التي عانت منها واستمرار عزوف المسافرين وتراجع الطلب على السفر. بالإضافة إلى إجراءات أمنية على مدار الساعة، ترتفع حدتها وتتعقد أشكالها باختلاف المواسم ويوماً بعد آخر، وتترافق معها منظومة من الضوابط القانونية والإجرائية تختلف طبيعتها ومستوياتها من قارة إلى أخرى.

فالحكومات وأجهزتها الأمنية والرقابية تزيد من ضغوطها على شركات الطيران، لترتفع درجة يقظتها وأولوية أمن وسائلها وتأمين خطوطها التجارية والسياحية بصورة تكاد تكون متواصلة خلال الثلاثة سنوات الماضية. والتحدي الحقيقي يكمن في ان تصديقات استخدامها للفضاء الجوي، أصبحت من مسؤولية إدارة أمن النقل التابعة لإدارات الاستخبارات والأمن الداخلي، بعد ان كانت تحت إدارة خدمات الطيران المدني وإشراف الاتحاد الدولي للنقل الجوي (أياتا) ومنظمة الطيران المدني الدولي. ويمكن تصور الإشكالية والتحديات المعقدة التي أفرزتها كارثة 11 سبتمبر (أيلول)، في وقت أصبحت فيه المطارات المدنية حول العالم مراكز انطلاق لنشاط اقتصادي وسياسي محموم. فأغلب المطارات تقع في مناطق داخل حرم المراكز السياسية والاقتصادية وأجهزة إدارة الدولة، وبالتالي أصبحت عرضة للمراجعة الدقيقة والدورية لإجراءات أمنية وتحت إشراف مباشر للاستخبارات والأمن في كل دول العالم تقريباً.

نتيجة لذلك أصبحت إدارات الطيران المدني شبه عاجزة عن تصريف أعمالها على الوجه الذي تريد، فيما صارت ضحية لجهل هذه الأجهزة بأسس إدارة حركة الطيران المدني وتقاليدها إقليميا وعالمياً. وتنكشف تعقيدات المسألة اذا علمنا ان أميركا وحدها بها ما يزيد عن 10 آلاف مؤسسة متخصصة في خدمات الطيران المدنية. وقد أظهرت أحداث السنوات الماضية الفشل المتكرر لإدارات الأمن، والتي تعتمد في معلوماتها على مصادر متعددة ومختلفة حول العالم في تقديرها السليم للمخاطر الحقيقية التي تواجهها حركة النقل من تلك التصريحات عن المخاطر التقديرية التي تواجهها حركة الطيران المدني، والتي لا تستند في أغلب الأحوال على معلومات ناجزه على أرض الواقع.

من جهة أخرى تواجه شركات الطيران التجارية تصاعد المخاوف لدى زبائنها في مجالات السياحة ونقل الركاب والبضائع. وأشارت الهيئة العربية للطيران المدني ان حركته شهدت في العام التالي لكارثة سبتمبر (أيلول) انخفاضا تراوحت نسبته بين 15 و20% وفاقت خسائره نصف بليون دولار مما دفع عددا من الشركات إلى حافة الانهيار، فأصبح من الضروري تخصيص بنود صرف إضافية لترويج الشعور بالأمان. بالإضافة إلى اعتماد منظومة من الترتيبات النفسية والحملات التسويقية المباشرة التي تركز على رفع ثقة الزبائن وتشجيعهم على الاستمرار في التعامل.

وهنالك تشديدات دورية ورقابية صارمة تستهدف رفع كفاءة ومستويات الترتيبات الأمنية التي تتبعها خطوط الطيران الكبيرة والمطارات الرئيسية والقومية، لتكون هي المعيار الذي تلتزم به المطارات الصغيرة وشركات الطيران الأهلية ومدارس التدريب ونوادي ممارسة هواية الطيران الشراعي والنفاث. وتراقب الاستخبارات الغربية عن كثب المطارات العربية والإسلامية التي تسير رحلات جوية مباشرة إلى مطاراتها. وتخضع الخطوط السعودية ومصر للطيران والمغربية والملكية الأردنية وطيران الإمارات والاتحاد وطيران الخليج باهتمام خاص. وصارت هنالك سلسلة من الإجراءات المترابطة التي تشرف عليها أقسام مرتبطة مباشرة بالأجهزة الأمنية من مقار وحدات صيانة الطائرات وتخزينها مروراً بمهابطها وإلى كابينة القيادة فيها.

كل هذه الإجراءات انعكست بصورة كبيرة على مستويات الطلب على الطائرات. فالسوق العالمي لحركة بيع الطائرات ما زال متراجعاً عن ما كان عليه قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ولا يتوقع الدارسون لحركة مبيعاته ان تتغير أوضاعه قبل العام 2006 . فالتقديرات التي يتفق عليها محللو قطاع الطيران واقتصاداته يشيرون إلى أن الطلب على الطائرات الجديدة قد لا يزيد عن 7 آلاف طائرة جديدة خلال العقد المقبل. بينما سيستمر انخفاض الطلب على الطائرات المستعملة (المعمرة) إلى أقل مستوى له خلال الربع قرن الأخير.

بعد مرور 3 سنوات على كارثة 11 سبتمبر (أيلول) ما زالت حركة الطيران المدني تواجه كل يوم مصاعب جديدة. فما زالت ساحات المطارات مكتظة بصفوف حركة الركاب البطيئة الخطى. وتتكدس صالات الانتظار تحت وطأة إجراءات أمنية غير مسبوقة. وسمحت الأحداث، للمرة الأولى، بأن يكون حمل السلاح بواسطة قبطان الطائرة ومساعديه أمراً عادياً. بل أصبحت للمرة الأولي هنالك طائرات حربية على أهبة الاستعداد الدائم لاعتراض طريق أي طائرة مدنية مشبوهة.

ومن جهة ثانية تتكثف الاستعدادات الأرضية والجوية للتعامل مع طائرات مدنية تغير مسارها المعلوم، أو تقترب من دوائر مراكز سياسية وإدارية للدولة والاقتصادية. فبالإضافة إلى وجود حراس مسلحين داخل الطائرات المدنية وأجهزة تلفزيونية لمراقبة الركاب، تجري الاستعدادات لتطوير فرص الاتصال بين هذه الأطقم المسلحة ومقابلها الأرضي في حالة حدوث حالات طوارئ. وتواجه طائرات الحراسة العسكرية للمطارات ومقار الدولة عقبة أنها غير مؤهلة لكشف ورصد الطائرات الشراعية، أو الطائرات ذات مدى طيران منخفض.

الحقيقة الواضحة إذن هي ان التحدي الحقيقي والمخاطر المترتبة على العمليات الإرهابية لم يتم احتواؤها بعد. ومما يزيد الطين بلة انه وإلى الآن، ما زالت إجراءات فحص الركاب من خلال أجهزة كشف المتفجرات لم يتم وضعها إلا في مرحلة التجريب في عدد محدود من المطارات حول العالم. وما زالت عمليات التنسيق والتعاون بين السلطات الأمنية في مجال حماية الطيران المدني متخلفة عن مجالات التعاون الأمني الأخرى.

وهنا تتوالى الأسئلة من شاكلة: ما هي التحديات التي تواجه صناعة الطيران المدني؟ وما هي العقبات التي تقف أمام التوازن الدقيق بين حماية أرواح وممتلكات الأشخاص، عن طريق تفتيش غير عادي ومطول، مع وضع الاعتبار للحفاظ على ثقتهم في وسيلة مريحة وسريعة للانتقال والتجارة.

عالجت مجلة «الطيران وتقنية الفضاء» الأميركية في عددها الأخير (أغسطس آب 2004 ) الجوانب المختلفة لهذه التحديات التي يمكن تلخيصها هنا في مدى توفر أسلحة متقدمة في متناول الإرهابيين، قادرة على تعطيل حركة الملاحة الجوية; وفي تطور أدوات فعالة لتفادي استهداف الطائرات المدنية; وفي إعادة النظر في الأسس الخاصة بتصميم طائرات النقل نفسها; وفي تنظيم شبكات المعلومات القادرة على استباق وإجهاض الخطط الإرهابية; وفي إعادة تشكيل أسس صناعة النقل الجوي للأمتعة والبضائع وتخصيص خدمات فحص الركاب في المطارات، وإعادة تأهيل أجهزة الهجرة والجمارك لتواكب الضغوط المتزايدة عليها. وتضيف المجلة دراسة أسس زيادة التنسيق والتعاون الإيجابي بين المؤسسات المسؤولة عن أمن المطارات المدنية حول العالم، وتطوير تقنيات متقدمة لاكتشاف المتفجرات بأنواعها المختلفة.

ولكن الخبراء الذين استطلعتهم المجلة أشاروا إلى ان كل هذه الآليات ومدى استخدامها يدفع إلى السطح حزمة جديدة من المصاعب تتعلق بتزايد التكلفة بصورة كبيرة، والاستنزاف الشديد لوقت المسافرين وموظفي شركات الطيران، فيما تتزعزع، خطوة تلو الأخرى، الثقة الغالية بفعالية هذه النظم ومحدودية قدرتها على توفير الأمن والأمان بصورة معقولة.

ذكر خبراء الأمن في عدد من المحافل الأكاديمية والسياسية انه منذ اشتعال حرب أفغانستان ضد الغزو الروسي في منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين وفرت الاستخبارات الأميركية وسائل متطورة لاصطياد الطائرات باستخدام أشعة الليزر زودت بها المقاتلين الأفغان والعرب. وانتقلت التقنية وسبل تطويرها إلى شبكات إرهابية حول العالم ارتبطت بتلك الحقبة.

أصبحت صواريخ استنجر وتنويعاتها المطورة في روسيا وشرق أوروبا متوفرة بصورة كبيرة وغير معروف عددها عند شبكات الجريمة المنظمة والإرهاب.

ولعل في تسرب عدد من صواريخ حلف الناتو المعروفة باسم «استيلا ـ 2» وانخفاض سعر بيعها في الأسواق السرية إلى 15 ألف دولار للصاروخ الواحد ما يعزز من فرص وقوعها في أيدي الإرهابيين. كما ان تسرب عدد غير معروف من الأسلحة المماثلة من مخازن جيوش شرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا وأفريقيا لم يتم حصره بعد.

وقد أثبتت الأحداث ان هنالك صواريخ مطورة تم استخدامها ضد طائرات عسكرية أميركية في كل من الصومال وأفغانستان والعراق يمكن ان تشكل خطورة كبيرة إذا ما تم استخدامها ضد طائرات مدنية. كما ان هنالك أكثر من جهة تراقب عن كثب تقنية صواريخ «القسام» التي تواصل حركة حماس الفلسطينية تطويرها وتخشى ان يكون ذلك دعم لقدرتها العسكرية من دون شك ولكن يعزز في الوقت نفسه من فرص تسرب هذه التقنية إلى مجموعات تنشط في مجال الإرهاب حول العالم. وتلفت أكثر من جهة إستخباراتية إلى استمرار تسرب أسلحة صغيرة متطورة من دول شرق أوروبا وجنوب شرقي آسيا إلى الأسواق السرية للسلاح والارتباط الشديد نين هذه التسريبات واستمرار الفساد في بعض جيوش هذه الدول.

إن كارثة 11 سبتمبر المفجعة قد غيرت من سياسات واقتصاد وثقافات دول عديدة في علاقتها ببعضها أو في علاقتها مع مواطنيها. ولكن الحقيقة الناصعة أن وسيلة النقل الجوي التي كانت تعتبر أنجع وسيلة لتواصل البشر حول العالم قد تعرضت إلى متغيرات فاقت كل تصور.

وبرزت إلى السطح ضرورة التوازن بين التدابير الأمنية وبين أهداف الطيران المدني المتمثلة في انسيابية حركة المسافرين من دون تمييز أو تعطيل. ولعل أكبر تحد تواجهه صناعة الطيران المدني وخدماتها المساعدة اليوم، هو قدرتها على التلاؤم مع الضغوط والشروط الأمنية الصارمة التي تفرضها الظروف.

* أكاديمي في جامعة كيمبردج في بريطانيا

[email protected]