الولايات المتحدة .. توابع الزلزال ومستحقاته

TT

أصبحت محاربة الإرهاب هي الأولوية الأولى للسياسة الخارجية الأميركية ، فأعلنت عزمها على خوض حرب ضد الإرهاب قد تستمر 10 سنوات، وتستهدف ليس مجرد الامساك بمجموعة من الأشخاص ومحاسبتهم ، وإنما إزالة كل الأنظمة التي تدعمهم والقضاء على الدول التي ترعي الإرهاب . واذا كان هدف الضربة الأولى هو أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان ، فالعمليات تقرر لها أن تمتد الى التنظيمات المتصلة به في أكثر من 60 دولة . وساحة الحرب غير محددة جغرافيا ، أي برقعة للمواجهة ستمتد من جبال القوقاز الي تخوم الهملايا، ومن وسط افريقيا وجنوب شرق آسيا الي سواحل البحر المتوسط ومياه الاطلسي .

وأعطت الادارة الاميركية اهتماما خاصا في هذه الحرب للشرق الاوسط والمنطقة العربية تحديدا ، لاعتقادها ان الإرهاب الذي يهددها ينبع من هذه المنطقة . تقول مستشارة الأمن القومي الاميركي كوندوليزا رايس إنها منطقة يؤدي فيها اليأس الى خلق تربة خصبة لأيديولوجيات تقنع بالتطلع ليس للتعليم الجامعي والوظائف وتكوين الأسر، بل الى تفجير أنفسهم وقتل أكبر قدر من الأبرياء معهم بقدر الإمكان . وتوسع مفهوم الإرهاب الاميركي ليشمل منظمات لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي والاميركي .

وتحركت الادارة الاميركية لتفرض مجموعة من السياسات والتفجيرات علي دول المنطقة تحت اسم مكافحة الإرهاب، شملت تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه انسحاب الدولة من الاستثمار وتوفير الخدمات الأساسية، والاعتماد عليى ما يسمى بسياسة السوق وحرية التجارة والقطاع الخاص ودعمه، وتغيير الأوضاع السياسية والأنظمة القائمة في اتجاه شكل ديمقراطي، والتدخل في المجتمع المدني وتقويته في مواجهة الحكومات، وتغيير مناهج التعليم، ودمج اسرائيل في المنطقة وضرورة اقامة الدول العربية علاقات وثيقة معها ، وتطبيق سياسة الحروب الاستباقية .

وبدأت الادارة الاميركية بالحروب الاستباقية، فشنت اعتبارا من 7 اكتوبر 2001 حربا عسكرية ضد أفغانستان شاركت فيها 350 طائرة و 20 سفينة حربية من بينها 3 حاملات طائرات و 35 ألف جندي ، وأعلنت ان هدف الحرب الحصول على المزيد من المعلومات للمساعدة في التخطيط لتوجيه ضربات لشبكة تنظيم القاعدة ومواقع حركة طالبان. ولكن الأهداف الحقيقية لهذه الحرب الاستباقية كانت مختلفة تماما . لقد أرادت الادارة الاميركية بشن هذه الحرب على أضعف وأفقر دولة في العالم، استعادة هيبة الولايات المتحدة التي اهتزت بشدة في العالم كله، وفي الداخل الاميركي بعد 11 سبتمبر، وتأكيد الهيمنة الاميركية، والتواجد الاميركي العسكري المباشر في آسيا الوسطي على حدود الجمهوريات الآسيوية السوفيتية سابقا (طاجكستان وتركمستان واوزبكستان ) وايران والصين وباكستان والهند، وتحجيم الدور الروسي والايراني في المنطقة ، والتحكم في بترول بحر قزوين . ووجهت ضربتها العسكرية الثانية للعراق في 20 مارس 2003 ,

وانتهت الحرب باحتلال اميركي للعراق . كان الاهتمام الاميركي بالعراق سابقا لتفجيرات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن . ثم انتقلت الولايات المتحدة لتنفيذ سياساتها بعد 11 سبتمبر عبر سلسلة من المبادرات .

أولى هذه المبادرات ما سمي بـمبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الاوسط التي أعلنها كولن باول في 12 ديسمبر 2002 في خطاب ألقاه بواشنطن بدعوة من مؤسسة جيرينناج فونداشن .

وحدد باول أن السياسة الاميركية في المنطقة تقوم على كسب الحرب ضد الإرهاب، ونزع سلاح العراق ، ووضع نهاية للصراع العربي الاسرائيلي .. واعطاء اهتمام مستمر وفعال للاصلاح الاقتصادي والسياسي والتعليمي.. والعمل مع الحكومات والشعوب لنقضي علي الفجوة بين التوقعات والواقع، وننشر الديمقراطية والسوق الحرة ...

ولكن مجموعة من المشاكل اعترضت هذه المبادرة. أولها توقيتها وعدم صدقيتها . ففي الوقت الذي تحدث فيه باول عن تحقيق الديمقراطية في العالم العربي، فقد افتتح خطابه الذي طرح من خلاله مبادرته مطالبا بضرورة تنحية الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات . رغم ان عرفات يكاد يكون الرئيس الوحيد الذي انتخب ديمقراطيا في انتخابات حرة، راقبتها منظمات عربية ودولية .

وواكب اعلان المبادرة زيارة دوجلاس فايث نائب وزير الدفاع الاميركي لاسرائيل لتعميق التنسيق العسكري والاطمئنان على كفاءة استعدادهم لأي حرب وتزويدهم بما قد ينقص ترسانتهم العسكرية من أسلحة . وأعلنت المبادرة عشية الاستعداد المعلن لغزو العراق . وبدا الخداع واضحا في حديث المبادرة عن الديمقراطية . فكوندوليزا رايس تقول ان الحكومات الديمقراطية في الوطن العربي موجودة في قطر والبحرين والاردن والمغرب ! وجناح الصقور في الادارة الاميركية يفسر طرح المبادرة للديمقراطية في هذا التوقيت بأن الأنظمة العربية هي اليوم في غاية الضعف، وبالتالي فهي ناضجة وجاهزة للتعديل والتجديد . وتصورت الادارة الاميركية ان الحديث عن الديمقراطية في هذه المبادرة رد صحيح علي انتقادات الرأي العام العربي للولايات المتحدة بأنها تفضل دعم أنظمة استبدادية مؤيدة لاميركا علي تشجيع التطلعات الديمقراطية للشعوب .

وبعد مضي خمسة أشهر طرح الرئيس الاميركي مبادرة أخرى خاصة بالشرق الاوسط في كلمة ألقاها يوم 9 مايو 2003 أمام 1500 من خريجي الدراسات العليا في جامعة ساوث كارولينا ، فاقترح اقامة منطقة تجارة حرة بين الولايات المتحدة ودول الشرق الاوسط خلال عشر سنوات (عام 2013). وقال إن اقامة منطقة التجارة الحرة يرتبط بتحقيق التسوية السياسية بين العرب واسرائيل .

وحدد 4 شروط كاشفة لانضمام أي دولة لهذه المنطقة وهي :

-ـ مقاومة الإرهاب بالمفهوم الاميركي ، واعتبار المنظمات المقاومة للاحتلال الاسرائيلي في فلسطين ولبنان منظمات إرهابية .

ـ اقامة أنظمة ديمقراطية .

ـ تغيير مناهج ونظم التعليم .. وترجمة كتب مدرسية أميركية الي العربية والتبرع بها الى المدارس في الدول العربية .

ـ الاعتراف باسرائيل واقامة علاقات معها وتطبيع هذه العلاقات، فعلى الدول العربية طبقا لبوش ان تقر وللأبد بحق اسرائيل في الوجود كدولة يهودية تعيش في سلام مع جيرانها .. والانضمام الي منظمة التجارة العالمية يشترط الا تدخل دولة في سياسة مقاطعة ضد دولة أخرى . وهذا يعني وقف سياسة المقاطعة العربية لاسرائيل .

وفي فبراير من العام الماضي سربت الادارة الاميركية لصحيفة عربية مشروع الشرق الأوسط الجديد الموجه من الادارة الاميركية الى قمة الدول الثماني (الولايات المتحدة ـ روسيا ـ اليابان ـ المانيا ـ فرنسا ـ بريطانيا ـ ايطاليا ـ كندا ) التي عقدت في يونيو 2004 .

ويشير المشروع الى ان الشراكة الأوروبية المتوسطية ، ومبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الاوسط ، بهدف الإعمار متعددة الاطراف في افغانستان والعراق .. تبين التزام مجموعة الثماني بالاصلاح في المنطقة .. وينبغي للمجموعة في قمتها في سي آيلاند ان تصوغ شراكة بعيدة المدى مع قادة الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة . ويمكن لمجموعة الثماني أن تتفق على أولويات مشتركة تعالج النواقص التي حددها تقريرا الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية عبر : تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح , وبناء مجتمع معرفي , وتوسيع الفرص الاقتصادية .. ان الحرية والديمقراطية ضرورتان لازدهار المبادرة الفردية ، لكنهما مفقودتان الى حد بعيد في الشرق الأوسط .

واقترح المشروع على الدول الثماني ان تتحرك خلال الفترة بين 2004 و 2006، لتقديم مساعدات تقنية لدول الشرق الاوسط لمرحلة ما قبل الانتخابات البرلمانية، وانشاء وتمويل مراكز توفر المشورة القانونية للافراد بشأن القانون المدني أوالجنائي أوالتشريع ، ورعاية زيارات متبادلة للصحفيين في وسائل الاعلام المطبوعة والاذاعية، وبرامج تدريب لصحفيين مستقلين، وتقدم زمالات رئيسية لطلاب كي يداوموا في مدارس للصحافة في المنطقة أو خارج البلاد , وتمول برامج لإيفاد صحفيين وأساتذة صحافة لتنظيم ندوات تدريب بشأن قضايا مثل تغطية الانتخابات , وان تشجع علي تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة لصوغ تقويمات سنوية للجهود المبذولة من أجل الاصلاح القضائي أو حرية وسائل الاعلام في المنطقة، وتقديم مساعدات لمعالجة تحديات التعليم في المنطقة ومساعدة الطلاب علي اكتساب المهارات الضرورية للنجاح في السوق المعولمة لعصرنا . وتجسير الهوة الاقتصادية للشرق الاوسط الكبير يتطلب تحولا اقتصاديا يشابه في مداه ذلك الذي عملت به الدول الشيوعية سابقا في أوروبا الشرقية . وسيكون مفتاح التحول اطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة خصوصا مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة .. والتركيز علي تنفيذ خطط الاصلاح التي تخفض سيطرة الدولة علي الخدمات المالية ..!

والمشروع هو في الواقع إعادة صياغة للعقول العربية والمجتمعات العربية بما يتوافق مع الرؤية الاميركية ، بحيث تتأكد من التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية بتبعية مجتمعية .. أو كما قال البعض، فالمشروع ورشة اميركية لتغيير انظمة الحكم وادارة شؤون الشرق الاوسط من منظور الادارة الاميركية ، والحفاظ علي مصالح الولايات المتحدة ـ واسرائيل ـ وحلفائهما . وفرض نموذج وقيم اميركية علي المنطقة .

وفي يوليو الماضي دفعت الولايات المتحدة مصر لانشاء مناطق صناعية مؤهلة بين مصر واسرائيل والولايات المتحدة ، أو ما يعرف باتفاق الكويز ، وتجعل التوقيع على اتفاق انشاء هذه المناطق شرطا أساسيا ـ ضمن شروط أخرى ـ لبدء المفاوضات حول عقد اتفاقية للتجارة الحرة بين مصر وأميرك، وهي الاتفاقية التي تسعي إليها الحكومة المصرية منذ عشر سنوات دون جدوى . واتفاق الكويز يشترط مشاركة اسرائيلية بمكونات نسبتها 8 بالمائة علي الأقل في المنتجات المصرية لتتمتع هذه المنتجات بإعفاءات جمركية عند دخولها السوق الاميركي .

وتواجه السياسة الاميركية بعد 11 سبتمبر 2001 مقاومة عنيفة من الشعوب العربية أحزابا ومنظمات مجتمع مدني ونقابات، ومن بعض الحكومات لتعارضها مع مصالح الشعوب , وأيضا الكراهية التي تحظي بها السياسة الاميركية في المنطقة، خاصة لموقفها ضد الشعب الفلسطيني والي جانب سياسة اسرائيل الشارونية ، ولجرائمها في العراق . ويسجل المكتب العام للمحاسبة التابع للكونجرس التراجع الحاد في شعبية الولايات المتحدة في الدول العربية والاسلامية فقد تراجعت شعبية الولايات المتحدة في الاردن من 25 بالمائة عام 2002 الى 1 في المائة عام 2003، وفي لبنان من 35 في المائة الى 27 في المائة، وفي المغرب من 77 في المائة عام 2002 الى 27 فيالمائة عام 2003، وفي تركيا من 52 في المائة الى 15 بالمائة، وأظنها حققت مزيدا من التراجع عام 2004 رغم الانفاق الهائل للحكومة الاميركية لتحسين صورتها ، ورغم اذاعة سوا وقناة الحرة، وربما بسببهما .

* الأمين العام لحزب التجمع اليساري المعارض ـ في مصر