مرونة سورية زائدة.. لاحتواء ما تواجهه من ضغوط..!

TT

رهان كسبه الذين توقعوا أن لا تواجه سوريا التصعيد بتصعيد مماثل، بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559 وبعد كل ما قاله مساعد وزير الخارجية الأميركي وليم بيرنز خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق، فالواضح أن الرئيس الشاب بشار الأسد اختار المرونة والسير على خطا والده في التعامل مع الأزمات الصعبة، وعدم الأخذ بنصائح وتحليلات «الطاقم القديم»، الذي لا يزال ينظر إلى الأمور وكأن الرفيق بريجنيف لا يزال حياً ويتربع على عرش القياصرة في موسكو، وكأن العالم لا يزال ينقسم بين شرقي وغربي.

لم يعش الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ليرى هذه الأيام القاسية والصعبة، حيث غدت الولايات المتحدة من خلال احتلالها للعراق، دولة مجاورة لبلاده، وحيث ما بناه في لبنان بدأ يتهاوى كقلعة من الرمال، ولكنه ترك لابنه مهارة الطيار المقاتل الذي لا يتردد في الابتعاد بطائرته بعيداً، ويتراجع عندما تصبح في دائرة مرمى صواريخ الخصم ورشاشاته ومدافعه.

لا شك في أن الرئيس الشاب بشار الأسد، الذي بقي يتعرض لمحاولات الشد إلى الخلف كل سنوات حكمه، عاد وهو يبحث عن مخارج من الأزمة الطاحنة التي بدأت تحاصر بلاده من كل الاتجاهات، إلى المخزون الذي تركه والده المشهور بحساباته الدقيقة، فوجد حادثة التخلي عن «الثائر» الكردي عبد الله أوجلان، بين عشية وضحاها، مقابل نزع الصواعق من المدافع والصواريخ التركية التي كانت تقترب من الحدود السورية، ووجد أيضاً تلك الخطوة الاستراتيجية الهائلة عندما لم ترَ دمشق بداً من إرسال وحدات من الجيش السوري لتقاتل في عام 1991 تحت القيادة الأميركية لإخراج جيش «الأمة العربية الواحدة.. ذات الرسالة الخالدة» من الكويت.

لقد أدرك الرئيس حافظ الأسد، صاحب الحسابات الدقيقة، والطيار الذي يتقن الفرَّ والكر، أن ثمن التمسك بالثائر الكردي عبد الله أوجلان، سيكون حرباً مدمرة، مع تركيا، بلاده غير مستعدة لها. وأدرك أيضاً أنه إن لم يشارك في الحرب الكونية لإخراج جيوش صدام حسين من الكويت بالقوة، فإن سوريا ستجد نفسها معزولة ومُستفردة، وبخاصة ان الاتحاد السوفياتي كان قد انهار وانهار معه المعسكر الاشتراكي كله، وانتهت الحرب الباردة التي كان الضعفاء يجدون فيها ملاذاً لتجنب بطش إحدى الكتلتين الكونيتين المتطاحنتين.

ربما أن «الحرس القديم»، الذين ما زالوا يحيطون بالرئيس بشار الأسد، نصحوه بضرورة مواجهة التحدي بتحد أشد منه وأعنف، وربما ذكَّروه بمقولة أنه لا يجوز التراجع أمام الخصم ولو خطوة واحدة، لأن هذا سيغريه بالمتابعة للحصول على عدد من الخطوات التراجعية الجديدة، وربما أنهم أيضاً أشاروا عليه بإمكانية مقاتلة الولايات المتحدة من الخندق الفرنسي، والسعي لتعديل موازين القوى ولو بالذهاب إلى الصين، أو رفع درجة التحالف مع إيران التي هي على وشك إنتاج الأسلحة النووية.

لكن الواضـح أن بشار الأسد، الذي لا مجال للشك في أنه، وبينما بلاده تواجه كل هذه «الاستحقاقات» الجديدة، عاد إلى المخزون الذي تركه له والده، لم يستمع إلى كل هذه النصائح والتحليلات. والدليل على هذا أن ما قاله في اجتماع «الجبهة القومية التقدمية» لجهة مطالبته بعدم التقليل من شأن القرار الدولي رقم 1559، يؤكد أن طريقته في التعاطي مع أزمة بكل هذا الحجم من التعقيد والخطورة، تختلف عن الطريقة النمطية التي كانت متبعة عندما كان هناك الاتحاد السوفياتي وكانت هناك الحرب الباردة.

لم يعتبر الرئيس بشار الأسد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 مجرد فقاعة صابون، كما قال الذين اعتبروا هذا القرار بمثابة انتصار لسوريا ولبنان، فأخذ التهديدات الأميركية على محمل الجد، والمؤكد أنه أدرك أن الرمال اللبنانية بدأت تتحرك تحت أقدام الوجود السوري، العسكري والأمني والسياسي، وأنه من غير الممكن أن يشرب وليد جنبلاط «حليب السباع»، وعلى هذا النحو، لولا أن هناك ضمانات خارجية ومعطيات داخلية، في لبنان، هي التي دفعته دفعاً لاتخاذ هذا الموقف.

عندما قرأ الرئيس السوري وثيقة «اللقاء الديموقراطي» اللبناني الذي عقد اجتماعه برئاسة وليد جنبلاط يوم الثلاثاء في الثاني والعشرين من سبتمبر (أيلول) الجاري، فإنه بالتأكيد استنتج أن هناك متغيرات في لبنان، وأن هناك عاصفة لا بد من الانحناء أمامها. وعندما يرى أيضاً أن الحلف المؤيد لبلاده تآكل إلى حد خروج، حتى الحزب الشيوعي اللبناني وحتى الأغلبية الصامتة، التي ستتخلى عن صمتها ذات يوم قريب، منه، فإنه مضطر إلى إعادة النظر بحساباته السابقة كلها.

قبل أيام قال مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق مارتن إندك، بعد مقابلة مع الرئيس السوري، كانت طويلة جداً على غرار مقابلات والده الراحل: «كما تعاون حافظ الأسد في عام 1991 مع أميركا في حرب الكويت وتصرف في لبنان مقابل ذلك، فإن بشار سيتعاون معنا في العراق لأن هذا من مصلحة سوريا».

وهنا، فما هو مؤكد، أن الذي تعرفه دمشق، وأنها ربما تبلغته مباشرة من الأميركيين، إنْ خلال زيارة وليم بيرنز الآنفة الذكر، وإنْ خلال اللقاء الذي جمع كولن باول وفاروق الشرع على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العمومية للأمم المتحدة، هو أنَّ همّ الولايات المتحدة الأول هو العراق، وأنه بإمكان واشنطن إبداء حتى مرونة زائدة بالنسبة للشأن اللبناني، في حال أن تلمس تعاوناً سورياً فعلياً معها بالنسبة للمسألة العراقية، فهدف الولايات المتحدة بالأساس، من تفجير اللغم اللبناني في وجه سوريا، هو الضغط على دمشق لحملها على التعاون مع الأميركيين، وبلا حدود، لضبط الأوضاع العراقية المتفاقمة، ولهذا فإن ما سيتم التأكد منه هو مدى انعكاس المديح الذي كاله كولن باول للانسحاب العسكري السوري من بعض المواقع اللبنانية، على التقرير الذي من المفترض أن يقدمه كوفي عنان بعد أيام إلى مجلس الأمن الدولي، ويوضح فيه مدى تعاون السوريين بالنسبة لتطبيق القرار رقم 1559 .

إذا أبدت سوريا استعدادها للتعاون مع الأميركيين بالنسبة للوضع العراقي والى أبعد الحدود، ويبدو أنها باتت مستعدة لمثل هذا التعاون وأنها أبلغت ذلك لواشنطن، فإن تقرير الأمين العام للأمم المتحدة المتعلق بتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 سيأتي سلساً، وفي غاية التهذيب وسيتضمن ما يمكن أن يكون بمثابة إغماض العينين، وليس عيناً واحدة، عن أمور كثيرة وعلى نحو سيصيب وليد جنبلاط والمتحالفين معه باليأس والإحباط.

سيكتفي الأميركيون في المرحلة الراهنة بحدود ومضمون الانسحاب السوري الأخير من لبنان، إذا أعطاهم السوريون ما يريدونه من تعاون بالنسبة للمأزق العراقي، فهدف الولايات المتحدة هو العراق وليس لبنان، والمؤكد، كما قال مارتن إندك، أن دمشق ستتعاون مع الأميركيين بالنسبة للأزمة العراقية.

لقد فهم البعض أن «تظاهرة» إلقاء قوات الأمن اللبنانية «بالتعاون مع القوات السورية الشقيقة» القبض على بعض خلايا «القاعدة»، التي تقوم بتجنيد أصوليين لإرسالهم للقتال في العراق، على أنها رسالة مزدوجة موجهة إلى الولايات المتحدة تحديداً، ويقول قسم منها إن الانسحاب السوري من لبنان ستكون عواقبه وخيمة، فيما يظهر القسم الآخر أقصى حالات الاستعداد للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب على الساحة العراقية.

وهنا، وإذا علمنا أن هناك اجتماعات أمنية سورية ـ أميركية ـ عراقية جارية الآن على قدم وساق، فإننا ندرك أبعاد ترحيب كولن باول، في أعقاب لقاء فاروق الشرع على اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بخطوة انسحاب القوات السورية من بعض المواقع اللبنانية.