ويسألونك عن الثقافة..!

TT

افتتح الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، يوم السبت الموافق 25 سبتمبر (أيلول) الجاري ملتقى المثقفين السعوديين الأول، ونحن إذ نطرح قضايا الثقافة فإنها من أكثر الكلمات الشائعة تداولاً، ومن أوسعها شمولاً وغموضاً في نفس الوقت. فهي تعتبر في علم الاجتماع ذلك الكل الذي يُعنى بالمعرفة، والفن، والأخلاق والعُرف، والقانون، والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه فرداً مجتمعياً. أمّا إذا حاولنا تعريف الثقافة بمعناها الإنساني المترفِّع، فهي تتحدر من صقل الذهن والذوق والسلوك. يُقال تثقيف الشجر، بمعنى تهذيبه، وكذا المفروض في نتاج العقل والخيال البشري تحقيقاً لهذا الهدف الإعدادي، وقد ذهب أحدهم إلى القول بأن المثل الأعلى للثقافة هو أن تختفي الثقافة، بمعنى أن تكون مندمجة في شخصية الإنسان، وجزءاً من تكوينه، حتى دون أن تُعرض على مسرح أو تُقدّم في كتاب.

وذلك أمر من الصعب تحقيقه، لأن الثقافة باعتبارها صفة، لا يكتسبها الفرد إلاّ بحكم انتمائه لمجتمعه، وهذا معناه أن تكون البيئة الثقافية للمجتمع ككل، أي نقطة البداية في حياة الإنسان الواعية، بقبول سلوكيات وقيم واتجاهات محيطه، وهو ما يُعرف بالتنشئة الاجتماعية، فإذا كنا نتحدث عن العالم العربي، وبالتحديد عن تلك الثقافة بمعناها الانتقائي الرفيع، فأين هو هذا المجتمع العربي الذي يعيش الثقافة بمثلها الارتقائي حتى يتشبعها الفرد منذ صغره، فيصل إلى حدوده القصوى في التكوين العقلي والروحي والأخلاقي، وبطريقته في التفكير وتأمل العالم وتذوقه، فلا يعي إلاّ وقد أصبحت تكويناً باطنياً تلقائياً داخله. إن هذا المجتمع بصورته المثالية التي لا تتداخل معها العوامل الجانبية والمثبطة، يكاد لا يوجد حتى في أكثر البقاع الإنسانية تحضراً، فما بالك بالمجتمعات العربية المحدودة نسبياً في نطاقها ومخرجاتها الإبداعية!

ومن هنا قد يبدو مفهوم الأزمة ملازماً للثقافة العربية، على افتراض أن وعي المثقف الذي يجعل تفكيره خارجاً عن إطار عصره، تطلعاً إلى عالم أفضل، غالباً ما يواجه بالصدمات التي نسمع عنها، فما عجز الواقع عن مواكبة الفكر إلاّ أكبر دليل على أن تغيير البنية الاجتماعية أسرع، وفي أحيان كثيرة أسهل من تغيير عقول البشر وأساليب تفكيرهم، وهو أمر ليس بجديد في تاريخ التطور الحضاري للإنسان، فعادة ما ينشأ التراجع الذي نعاني منه فكرياً وما يترتب عليه ثقافياً من ارتباطه باللاعقلانية، أو بالنظرة الحالمة السحرية إلى العالم والأشياء، أو بوجهات الرأي اللاسببية في تناول الأمور، لذلك فإن تحقيق انتفاضة تنموية في الفكر العربي المعاصر، إنما يتطلب طرحاً عقلانياً للقضايا الفكرية، فكوننا نفكر في نهضتنا الفكرية بعقل ما قبل النهضة، فنمارس النقد في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والمستقبل، ولكن لا نتحدث عن العقل العربي، ولا يُحشد له من الاقتناع ما يكفي لإعادة تأسيس نفسه على أسس غير تقليدية، فسنظل نراوح مكاننا، أو نُدفع دفعاً إلى الوراء. فهيمنة الفكر التراثي كما وصل إلينا تاريخياً، وحضور الآخر بشكل مكثف في حياتنا الفكرية والسياسية جعلنا نحيا في ازدواجية لم تساعدنا على الانصهار ما بين الاثنين، فنحن كـ«ماضي» ما زلنا لم نرتب أوراقه على أساس أنه تاريخ وتطور وصراع، كمخزون استوعبناه وانتقدناه ونظمّناه ثم انصرفنا عنه إلى غيره، ونحن كـ«حاضر» لم نحفر فيه بصمتنا بعد، فلا تزال أيامنا هشة، وأقصد بها العلم المنتج، والشخصية المستقلة، والثقافة المصدِّرة، ولأن الزمن الذي نمر به لا يوصف بأدق من «محرقة المراحل»، فالوقت الذي هو بالتأكيد ليس في صالحنا، واستمرار خلطنا للأحداث بمفاهيمها وظروفها ونتائجها لن يكون حصيلته أن نصحو يوماً فنجد لنا عقلاً خاصاً، وقد تجدد وتجانس في مستواه مع نفسه وسواه، ولو نسبياً على الأقل.

إن قضية الثقافة العربية تعود بشكل معقّد وعجيب إلى مسألة وحدة الشعوب من الخليج إلى المحيط، فحين ينتشر تيار ما في إحدى البلاد العربية، سرعان ما نراه وقد سُوِّق في قطر آخر، وكما تنتقل الفكرة الطيبة والمبدأ العاقل، كذلك تأتي عدوى الفكر المغاير. وكأن نصيبنا من الألم بسبب حلم الوحدة هذا يظل وحده هو المردود الملموس.

فالعلاقة أساساً في الوطن العربي الحديث هي ما بين الثقافة والسياسة، وليست ما بين الثقافة والعلم، أي باختصار نحن لا نعيش الثقافة في علاقتها مع العلم، وإنما مع السياسة، فمثلاً نجد منذ القرن التاسع عشر الميلادي وحتى اليوم، أن أكثر ما يزعج المثقف الغربي هو كيفية الوصول لتوافقية معقولة في مجتمعه بين الثقافة والعلم، تواكب أو تفوق خيال الإنسان وملكاته الإبتكارية، بينما في عالمنا العربي نرى الموضوع يميل إلى تحدي السلطة وليس العلم.

ونحن إذ نعترف بتلك الصعوبات التي تصارعها الثقافة العربية فلا نتوجه بكلامنا إلى المعنى المباشر وحده للسلطة، وهي الحكومة. فهناك سلطة الأعراف الشائعة التي قد يصل التزمت معها حداً يخرجها عن تعاليم الدين وقوة النظام نفسه. وهذه السلطات الثلاث: الدين، الدولة، العُرف، قد يكون لها من التأثير السلبي إذا استخدمت بتعسف غير متفّهم.

فكل من يحرص على إتباع أحدث ما جاء في كتب الغرب وتقاريرهم، من دون الأخذ في الحسبان اختلاف البيئات والخلفيات، أو بذل المحاولات للتجديد لا يُرجى منه إبداع، وكذلك المرء الذي يرتدي لباس أسلافه ويفكر كما يفكرون، ليتوحد مع عصر غير عصره، فينسلخ بروحه عن مجتمعه بحجة رفضه لهذا الواقع هو أيضاً إتّباعي لا يُعقد عليه كبير الأمل، بل ويكون في أحيان كثيرة من أشد الناس رفضاً للتقدم والإصلاح، وكما يمكن أن يكون التقليد باتباع معاصرة أياً كانت قيمتها، أو جرياً وراء أصالة مزعومة أياً كانت نتيجتها، فمثله يُقال عن فلسفة الإبداع التي تتخطى بمادتها النطاق الزمني ولا تتقيد به، فالابتكار كما قد يكون لجديد يتماشى مع مجريات العصر، قد يكون لأمور لا علاقة لها بالمخترعات والاكتشافات، فإذا علمنا هذا وذاك، ثم تأملنا وضعنا الحضاري الراهن، ودققنا في تبعيّتنا وإبداعهم، فلربما اقتنعنا بأن الظرف الذي نعيشه ليس اختياراً بين الأصالة أو مسايرة المعاصرة، قدر إثبات استقلالنا بمكانتنا التي يجب أن تصنعها حلولنا، وشجاعتنا في استنباط حسابات تعمل لصالحنا وتكتب لنا مواقع في التاريخ الحديث.

لا بد لنا أن ندرك أن المجتمعات التي تحاول صد الهــــجمات الثقافية الخارجية عن طريق تشريعات المنع والحظر، هي أكثرها تعرضاً للأخطار، لأنها بانشغالها الرقابي تكون قد حرمت نفـــــــسها فرصة صنع ثقافة خاصة بها، تستطيع أن تصمد أمام أي غزو فتنتصر، ثم ولم الخوف؟ إذ ليس المطلوب من الثقافة الحقيقية أن تبعث أماناً واطمئناناً، فالعمل العظيم هو الباعث للقلق والمعاناة وقلب رتابة السكينة، والتي عن طريقها وحــــدها تُخلق القصيدة الخالدة، والكتاب القـيّم، والأفكار المتحوِّلة، والشعوب المستنيرة الواعية.

صحيح أن الأمة العربية من أقدر الأمم على الاحتفاظ بتراثها الأصيل، ولكن هذا التراث، وهذه الأصالة يوجد فيها ايضا عناصر «مستوردة» اقتبستها الحضارة الإسلامية منذ سنوات الفتح الأولى، وبفضل هذا القبول بالفكر المستورد وأنظمته وتطويعه، خرجت على العالم بأسره مجموعة الفلاسفة والعلماء والمفكرين والمؤرخين العرب، فإذا كنا ولا نزال نفتخر بدورنا في تصدير فكرنا وعلمنا إلى أوروبا في عصور ظلامها، أي باستيرادهم لفكرنا، فكيف لا نعترف بأهمية هذا الأخذ الآن وهما عمليتان متلازمتان.