ملامح من تأهل فكر إدوارد سعيد للريادة

TT

في عام 1999 أجرت الإذاعة الكندية حوارا مع المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، حول مسيرة حياته وجذور فكره المتميز الذي لقي ويلقى صدى في الشرق والغرب. أذيع هذا الحوار في برنامج شهير للفكر بهذه الإذاعة يسمى IDEAS ـ أفكار. ووصفت إحدى المجلات الكندية المستوى الفكري لهذا البرنامج بأنه يماثل بحق مستوى شهادة الدكتوراة الجامعية. فمن جهة، يتضمن البرنامج تحاليل وتعليقات مقدمة البرنامج حول العوامل المتعددة التي أفرزت ظاهرة إدوارد سعيد. ومن جهة ثانية، حرصت المذيعة على إعطاء الكلمة لإدوارد سعيد لكي يتحدث عن طفولته ومراهقته وكهولته، بين فلسطين ومصر وأمريكا، وليشرح ويتحدث بنفسه عن أصول فكره الجديد ومنعرجاته، والتزامه السياسي خاصة لصالح القضية الفلسطينية.

يشد الاهتمام هنا ما جاء في حديث هذا المفكر بصوته وكلماته إلى المذيعة الكندية. إنه كلامه المباشر إليها، والى الناطقين بلغة شكسبير، حول منعرجات حياته وهمومه الفلسطينية، وفكره الجديد الذي تجلى بقوة في سنة 1978 في كتابه «الاستشراق». يقول إدوار سعيد إن أخطاء الفكر الاستشراقي الغربي لا يمكن فهمها بموضوعية، إذا نسينا بأن ذلك الفكر هو في الأساس حصيلة لقوة وهيمنة ثلاث إمبراطوريات غربية على العالم العربي الإسلامي، وهي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. فسطو وسيطرة الإمبراطوريات ينسفان تلقائيا قدرة الباحثين الغربيين على التزام الحياد والنزاهة في دراسة الشعوب المستضعفة والمهيمن عليها. وهذا ما يعكسه الفكر الاستشراقي الغربي الذي ولد في عهد الاستعمار والهيمنة الغربيين لمنطقة الشرق الأوسط. ويعتقد إدوارد سعيد أن هناك تساؤلاً إيبستيمولوجياً مشروعاً بهذا الصدد وهو: من يتحدث عن من ؟ وهل يستطيع المستشرقون الغربيون، بحكم ارتباطهم بهيمنة وقوة بلادهم، أن يصيبوا في كتاباتهم عن شيء (العالم العربي الإسلامي) وهم يجهلون الكثير عنه ؟.

وفي الحديث عن نفسه مباشرة، يرى أنه مثقف معارض. يتمثل دوره في تحدي وتعرية الأفكار والأطر المعرفية paradigms التي يقبلها الباحثون كمسلمات. كما أنه ينظر الى نفسه كمفكر شديد التضامن مع المستضعفين وقوي التحمس للدفاع عنهم. ومن ثم يجوز وصفه بأنه مفكر متمرد وخارج عن سرب المثقفين Outsider. وهذا ما جعله، مثلا، يعترض في محيطه الجامعي الغربي على حصر تدريس الإنسانيات Humanities من التراث الغربي فقط. فوقف إدوارد سعيد متحديا لتلك المركزية الأوروبية الغربية، ونادى في كتابه «الإمبريالية الثقافية» بإفساح المجال للتراث الإنساني من الحضارات الأخرى: الصينية والهندية والعربية وغيرها.

ويؤكد مؤلف كتاب «الاستشراق» أنه صاحب رؤية جديدة أدت عموما إلى تغيير جذري في الدراسات الاستشراقية الاستعمارية، الأمر الذي جعل هذه الأخيرة في حالة دفاع، على الأقل، عن نفسها. إذ أن الفكر الاستشراقي الإمبريالي ليس في نهاية الأمر بالفكر العرضي (غير مقصود) البريء، بل هو فكر وليد منطق قوة الغرب وهيمنته على المنطقة العربية الإسلامية.

أما تعاطف الغرب مع إسرائيل فيرجعه إدوارد سعيد إلى ثلاثة عوامل رئيسية:

ـ الشعور الجماعي الغربي بالذنب إزاء اليهود، وإحساس الغربيين بأنهم لم يفعلوا شيئا لصالح اليهود.

ـ تنتشر العنصرية الغربية ضد العرب الذين ينظر إليهم الغربيون بالدونية.

ـ اعتبار اليهود أنهم في نهاية المطاف أوروبيون/غربيون.

وبالنسبة لاتفاق أوسلو، فإدوارد سعيد لا يكاد يتردد في وصفه بأنه استسلام فلسطيني عملي للطرف الإسرائيلي. وهذا ما تشير إليه مجريات الأمور مع حكومة شارون في عدم الالتزام بمواثيق خريطة الطريق. إن كتاب «الانتحار السياسي: حرب شارون ضد الفلسطينيين 2003» لعالم الاجتماع الإسرائيلي Baruch Kimmerling اعتراف كامل بأن حكومة شارون تعمل من أجل القضاء على الفلسطينيين، كذات اجتماعية وسياسية واقتصادية، مما سوف يؤدي إلى التطهير العرقي للفلسطينيين من إسرائيل الكبرى.

ومن خلال هذا الوضع الحالك لا يبدو إدوارد سعيد متفائلا حول إمكانية حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل. بل هو يميل أكثر إلى إنشاء دولة واحدة متعددة اللغات والديانات والثقافات على النمط السويسري مثلا. ففي رأيه، ان تاريخ فلسطين الطويل شاهد على إمكانية التعايش بين عديد الملل والنحل على أرض فلسطين.

* أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس