وميض المشترك الإنساني.. في ظلمة التوتر والتدابر والصراع

TT

«المشترك الإنساني»، لا يزال ينبثق ويومض: متبوأ مكانته في هذا الزحام المفتعل أو الجاهل من التوترات والأحقاد والصراعات التي تكاد تجعل الأسرة الإنسانية ـ الموحدة الأصل والنوع ـ أنواعا من الكائنات: يتحرش بعضها ببعض. ويلغي بعضها بعضا، أو يحاول ذلك.

في أيام متقاربة الساعات والأنفاس: التقينا بمنظومة من «الأفكار« المحتفية بالمشترك الإنساني، والمترجمة له.

1 ـ يوم 30 سبتمبر المنصرم كان هو «اليوم العالمي للترجمة».. وكل من له علاقة مبصرة بالفكر والثقافة يعلم أن «الترجمة» هي واحد من أعظم خطوط الوصال والاتصال بين الأمم والثقافات والحضارات.

2 ـ وقبل ذلك بساعات سمعنا الأمير سلمان بن عبد العزيز يقول

ـ في الملتقى الثقافي في الرياض ـ: «إن الثقافة العربية الإسلامية انطلقت من بلادنا هذه، وانتشرت في العالم، وأثرت في ثقافات الأمم وتأثرت بها عبر الأندلس وغيره، لأنها ثقافة منفتحة غير منغلقة. ومن هنا حصل المزج والتلاقح الثقافي والحضاري العالمي من خلال ما قام به المفكرون في القرون المبكرة من ترجمة متبادلة وبحث وتحقيق».

3 ـ وفي سبتمبر نفسه، أطلق رئيس وزراء اسبانيا «خوسيه ثاباتيرو» دعوة واضحة ـ عبر الأمم المتحدة ـ، إذ دعا إلى (تكوين تحالف وتواثق حضارات بين الغرب والعالم العربي الإسلامي).

4 ـ وفي مبتدأ أكتوبر الجاري، افتتح معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وانتظمت أعماله.

* وقد ألقى الكاتب الكبير نجيب محفوظ كلمة تتألق ـ أيضاً ـ بـ «المشترك الإنساني»، إذ قال: »أما المصدر الثاني لثقافتنا في العالم العربي فهو الإسلام، ذلك الدين السمح العظيم الذي منح الشعوب العربية منظومة القيم التي صاغت هويتنا الحالية ومنها الحرية. فمقولة «لا إله إلا الله» التي هي أساس شهادة المسلم، إنما تعني انه لا عبودية إلا لله وحده، وليس لأي إنسان على إنسان. ومنها ايضاً: المساواة. فالبشر جميعا في الإسلام سواسية أبيضهم وأسودهم وأصفرهم، لأنهم جميعا أمة الإسلام، أيا كانت أصولهم العرقية. ومنها أيضاً التسامح. فالدولة الإسلامية عاش وانتعش فيها العلماء والفلاسفة من المسيحيين واليهود، كما تولوا مناصب كبيرة في الدولة وصلت إلى رئاسة الوزراء في الأندلس، ومنها أخيرا العدالة التي هي أساس الملك».. وهذا المصدر الثاني جاء بين مصدرين آخرين للثقافة العربية هما: حضارات وثقافات المنطقة التي سبقت الإسلام.. والحضارة الغربية المعاصرة.. وهذا كله صحيح.

وما قاله هذا الكاتب الموهوب: ليس كلمة مفردة، ولا يتيمة كما يتوهم الذين (يصدمون) بقوله هذا، ولا كما يتوهم الذين يلتمسون للأبرياء العيب.. فقد سئل عن حاضر الإسلام ومستقبله في هذا العصر فأجاب: «يمكن اعتماد الإسلام كنظام حياة، لأن مبادئ الإسلام تشجع العلم، وترفض التعصب وتدعو للتعايش بين مختلف الطوائف، فتضع أسسا صالحة لمجتمع حديث.. والدين ضروري لتطور الدول العربية، فهو قاسم مشترك كما اللغة الواحدة.. والتجدد الإسلامي خطوة إيجابية بقدر ما هو دعوة للتضامن الإنساني، وبسط المعرفة».

التعايش.. التضامن الانساني.. التحرر من العبودية لغير الله.. بسط المعرفة.. المساواة.. التسامح.. هذه كلها مفردات ومفاهيم: تجتلي المشترك الإنساني وتؤصله وتعلي قيمته.

وعند هذه النقطة من السياق: يلتمع أمامنا الآن: أفق آخر، ندير الحديث تجاهه وهو أفق (لا خوف من الفكر أو التفكير الحر)، فإن كل تفكير أو فكر حر، سيعانق الحقيقة يوما. ولذا وجد في تراثنا النفيس العقلاني المعتبر: هذه العبارة (كل باحث عن الحق بإخلاص مكتوب له النجاة، وإن لم يدرك الحق وهو في الطريق إليه).. وإنما المشكلة في التفكير الذي يدّعي انه حر، وهو مصفد بأغلال: جنون الشهرة.. والعقدة النفسية.. والارتزاق عن طريق النيل المتعمد من عظمة الإسلام التي احتفى بها نجيب محفوظ وغيره من المفكرين الأحرار، وكأنه قد أصبح شعاراً أو أصبحت حرفة الهجائين للإسلام هي (اشتم الإسلام تظفر بجائزة) يصحبها تلميع إعلامي.

إن صاحب التفكير الحر ينتقد، ويقسو في النقد أحياناً، لكن معدنه يسفر ويتوهج حين يتعلق الموقف بمقومات أمته ووجودها المعنوي وتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

أحمد بهاء الدين عروبي سافر العروبة. يباهي بها ولا يستحي منها، ولا يقايض عليها. ومع ذلك كان إذا جد الجد وحصلت المفاصلة: توهج معدنه الحقيقي المتمثل في الموقف الإيجابي من الإسلام.. مثلا: سئل: هل يمكن لدولة عصرية اعتماد الاسلام كنظام حياة؟ فأجاب: «هذا هو تحدي العالم العربي الحقيقي، فالإسلام عميق الجذور في ضمير وثقافة المسلمين، وفي عالمنا العربي الشرق أوسطي. ومن جهة ثانية هناك محاولات تعود لعهد طه حسين والعقاد ترمي إلى مد الجسور بين الإسلام والعالم المتحضر.

هذا التوفيق ما زال يشغل مثقفي العالم العربي.. إن العدو الأول للإسلام هو التخلف لدى أكثر الشعوب الإسلامية وحكوماتها، فحقبات كاملة من تاريخ العرب غاب عنها الإسلام الحق، وبالتالي كان لها دور تاريخي سلبي».

وكان خالد محمد خالد يطرح أفكاره وهو حر: متحرر من كل خوف ومقيد، لأنه كان صادقا مع نفسه (وهذه هي أبرز خصائصه النفسية والفكرية).. وبمقتضى تفكيره الحر هذا، كان رجّاعا إلى الحق حين يكتشف الحقيقة بعقله. وكنا نحسب أنه ظاهرة فريدة ـ في حقبتنا هذه ـ: في نقد نفسه وفكره يوم أن قال ـ في كتابه: الدولة في الإسلام ـ: «كنت في قمة التأثر ببشاعة وجرائم الحكومة الدينية المسيحية، ثم عكست الصورة في غير حق على الحكام السياسيين في الإسلام واعتبرتهم حكومة دينية.. كان الخطأ هو التعميم.. ولم أكن يومئذ أخدع نفسي، ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك والحمد لله من طبيعتي. إنما كنت مقتنعا بما أكتب، مؤمنا بصوابه.. والخطأ الآخر: أني جعلت هذا وذاك (مصدر) تفكيري، لا (موضع) تفكيري. وفارق كبير بين الأمرين.. فعندما يكون الحديث أو الشيء مصدر تفكيرك فإنه يقودك في طريقه هو، لا في طريق الحقيقة، وتبصر نفسك من حيث تشعر أو لا تشعر: مشدودا إلى مقومات، وسائرا إلى نتائج، لم يأخذ الاستقلال الفكري حظه في تمعنها ودراستها.. أما حين يكون الشيء موضع تفكيرك، فإنه يمد تفكيرك المحايد والمستقل بكل اعتبارات القضية المدروسة من دون أن يلزمك بحكم مسبق يتحرك الفكر داخل إطاره الحديدي الصارم».. هذا تجرد للحقيقة، وصدْعٌ بها.. وكنا نحسب أن خالدا ظاهرة فريدة في حقبتنا هذه ولكنا التقينا بمفكر رفيع القامة هو زكي نجيب محمود ينهج النهج ذاته، ويصدع بالحقيقة عينها.. يقول ـ في كتابه: تجديد الفكر العربي ـ: »لم تكن قد أتيحت لكاتب هذه الصفحات في معظم أعوامه الماضية، فرصة طويلة الأمد، تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي المهمل، فهو واحد من ألوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر أوربي ـ قديم أو جديد ـ حتى سبقت إلى خواطرهم ظنون بأن ذلك الفكر هو الفكر الإنساني الذي لا فكر سواه. وتثبِتْ هذه الحال مع كاتب هذه الصفحات أعواما بعد أعوام: الفكر الأوربي دراسته وهو طالب، والفكر الأوروبي تدريسه وهو أستاذ، والفكر الأوربي مسلاته كلما أراد التسلية في أوقات الفراغ.. ولقد ألح علي هذا السؤال: كيف يمكن أن يكون الفكر العربي عربيا حقاً، ومعاصرا حقاً؟. فبدأت بتعصب شديد إجابة تقول: إنه لا أمل في حياة فكرية معاصرة إلا إذا بترنا التراث بترا. وربما كان دافعي الخبيء إلى هذه الإجابة المتعصبة هو: إلمامي بشيء من ثقافة أوربا وأميركا، وجهلي بالتراث العربي جهلا كاد أن يكون تاما. والناس ـ كما قيل ـ أعداء ما جهلوا. وأحمد الله أن أتاح لي آخر الأمر هذا الفراغ كما أتاح لي مكتبة عربية أقضي فيها بعض ساعات النهار وقد نشأ السؤال مرة أخرى يلح إلحاحا شديدا: نعم لا بد من تركيبة عضوية يمتزج فيها تراثنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه، لنكون بهذه التركيبة عربا ومعاصرين في آن».. هذا رجل ذو تفكير حر: فكر فأخطأ بصدق، ثم فكر فأصاب بصدق أيضاً.

ونخلص من السياق إلى:

أ ـ ان مفهوم «المشترك الانساني» لا يزال حيا لم يمت.. والحي يحتاج إلى غذاء وري واوكسوجين ورعاية تبلغه مبلغ العافية النضرة.. هذه ضرورة وليست ترفا. ذلك أن المشترك الانساني هو السفينة التي تنقذ البشرية كلها من الغرق المحقق في محيطات التوتر والتشظّي والصراع.

ب ـ التفريق الدقيق والأمين بين الخطأ الصادق الناتج عن تفكير حر نزيه، وبين الخطأ الكاذب الناتج عن تفكير تؤزه العقدة، والهوى، والارتزاق بالمضاربة بمبادئ الإسلام، والوجود المعنوي للأمة.