«إنتو المغتربين!»

TT

أثار زميلنا عبد الرحمن الراشد مشكلة «المغتربين» السوريين في مؤتمرهم الاخير في دمشق، وحجم المشاكل التي يتعرض لها السوري المهاجر او المسافر في عودته الى بلده الاصلي. الموضوع ليس سوريا، وانما الظاهرة عامة في دول العالم العربي كلها، حيث توجد اللوائح والقوانين البالية التي لا تصلح لزمن العولمة. فالعالم الآن تحكمه مجموعة قوانين جديدة فيما يخص حركة البشر، وكذلك حركة البضائع والاموال، ومن اراد ان يدخل ضمن منظمة التجارة العالمية، لا بد ان يعدل قوانينه الداخلية حتى يتأهل للتجارة مع الغرب الصناعي او مع العالم الرأسمالي بشكل عام، وللاسف تعدل الدول العربية قوانينها حتى تدخل هذا النادي او ذاك، ولكنها لا تعدلها في التعامل فيما بينها، فحركة البشر بين البلدان العربية التي تتشدق بالعروبة ليل نهار هي حركة منغلقة تنتمي الى العصور المظلمة، فالمصري يحتاج الى تأشيرة سفر، وكفيل، وخلافه كي يدخل اي دولة من دول مجلس التعاون الخليجي، كذلك السوداني، والعراقي والجزائري الى آخر هذه القائمة. كما ان حجم التجارة بين الدول العربية وبعضها البعض لا يصل الى 5% من حجم تجارة كل بلد على حدة مع العالم الغربي الذي نلعنه ليل نهار في فضاءات العروبة.

انفتحت سيرة المغتربين في الصحف المصرية وكذلك الآن في سورية، وكل دولة تحاول الانتفاع بما يمثله ابناؤها من ثقل في الخارج، سواء كان هذا الثقل سياسيا، او اقتصاديا، او علميا، ولكن ما ان يعود المهاجر الى وطنه من اجل استثمار مادي او حتى علمي يجد العقبات المختلفة المتمثلة في البيروقراطية الوطنية التي تجعله يحلف بأغلط الايمان الا يعيد الكرّة.

فبداية من ضابط الجوازات حتى سائق التاكسي الى الفندق، يجد المهاجر نفسه امام حالة غريبة وفضول عجيب يدخل في خصوصيات الخصوصية. وابل من الاسئلة عن مكان الميلاد ومكان العمل ولماذا انت قادم، ولماذا تحمل جواز سفر دولة اجنبية، كيف خرجت من جلدك بهذه السهولة، ويجد المهاجر نفسه يغلي من الداخل لا يستطيع ان يقول لعامل الجوازات ان جواز سفر البلد الذي تطالبني بالالتزام به يصلح فقط للسفر الداخلي في ذات البلد، ومتى خرج من الحدود وضعت عليه آلاف الدمغات والتأشيرات مما يجعلك لا تستطيع ان تتبين ملامحه كوثيقة سفر فيما بعد.

وبغض النظر عن كل هذا، متى ما وطأ «المغتربون» ارض الوطن الحبيبة يرون عجبا، فقد دخلوا في عالم آخر، اذ تدفع ثمن سيارتك مرة اخرى كي تدخل بها بلدك، لان الجمارك تصل الى اكثر من مائة في المائة من ثمن السيارة، ثم تنتظر شهورا حتى تتسلم سيارتك التي هي ملكك في المقام الاول من رجال الجمارك، ثم تدخل في قصة خدمة الجيش وغيره. ولحظي الجيد انني أديت الخدمة العسكرية، ومع ذلك فهناك كثيرون ممن تهربوا من ادائها عن طريق الواسطة وخلافه، هم الذين يحكمون على وطنيتك بعد ان دخلوا في السلك الدبلوماسي او سلك آخر من بيروقراطية الدولة.

يحس الشخص المهاجر بأن الدولة الاصلية التي ولد فيها هي المغتربة عن العالم وقوانينه المنظمة لحركته، وبالطبع لا تستطيع ان تقول لعمال البيروقراطية انهم هم المغتربون، لانك ستبدو غريبا في نظرهم.

خذ حالة احمد زويل، وهي حالة جيدة كمثال، لانها بين مصر وسورية، فالرجل مصري الاصل، وزوجته سورية، وزويل في اعتقادي لا يحتاج من بلده الاصلي الكثير، وعندما عاد بعد حصوله على جائزة نوبل، اراد ان يخدم بلده كمتطوع بأن يرفع من مستوى الاداء العلمي حتى يرتقي نظام التعليم في مصر الى مستوى التعليم في القرن الحادي والعشرين، طلبوا منه ان يخطط لبناء جامعة للتكنولوجيا، وبعد ان انتهت نشوة جائزة نوبل، وابن مصر الحاصل على هذه الجائزة العالمية، وانفض السامر وانتهت الزفة الاعلامية، ادخلوا الرجل في متاهات بيروقراطية لا نهاية لها بداية من مكان المبنى والى نوعية الجامعة ومن يترأسها الخ.

«طفش» الرجل ـ كما تقول العامية المصرية ـ بمعنى رحل الى غير عودة، وكثيرون «يطفشون» كل يوم من عالم طارد للمواهب وغارق في لغة تمجيد الذات «على الفاضي والمليان». وفي حدود علمي ان زويل لم يترك مشروعه في اقامة صرح علمي في العالم العربي، وعرض مشروعه على دول عربية اخرى عسى ان تتبناه. ونتمنى ان يحالفه الحظ في دولة غير «مغتربة».

البلدان العربية بها خامات جيدة من البشر ومن النابهين وهم كثر، نقابلهم كل يوم في حياتنا اليومية، ولكن لم تتح لهم الفرصة، فزويل لم يكن ليحصل على «نوبل» في الكيمياء لو بقي في مصر، هذه حقيقة تبقى معنا حتى يتحسن مستوى الجامعة المصرية على مستوى الابحاث والمختبرات والبنية التحتية، ليصل الى مستوى «كال تيك» او معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الذي يعمل به زويل. ظني ان ميزانية زويل المتاحة له كأستاذ هي اكبر من ميزانية جامعة في بلداننا.. اذن من المغترب؟! زويل ام نظام التعليم المصري أم نظام التعليم السوري او العربي بشكل عام؟!

الناظر الى مطارات عالمنا العربي، والناظر الى نظامه المروري، ونظامه البريدي، لن يتردد في ان يقول «انتو المغتربين». جربت ذلك بنفسي عندما كان سني ثلاثة وعشرين عاما، ولم ارد على خطاب صديق بريطاني، وقلت له انني وضعت الخطاب في صندوق البريد ولكنه لم يصلك، رغم ان هذه الحيلة تمر في عالمنا العربي، وجدت صديقي مكذبا لي وبصراحة قائلا لو وضعت هذا الخطاب في الصندوق كان سيصلني بالتأكيد. مقياس تقدم اي دولة وعدم اغترابها يبدأ من البريد، والبريد رسالة افقية بين مكونات المجتمع المختلفة وافراده، وكذلك هو رسالة رأسية بين الحاكم والمحكوم، وبما ان الرسالة عندنا لا تصل الا من المحكوم الى الحاكم، وان وصلت فهي في اتجاه واحد من الحاكم الى المحكوم في مجتمعاتنا فاذن نحن مجتمعات مغتربة بالنسبة للعالم من حولنا، لأن عدم الاغتراب هو ان تكون الرسالة في اتجاهين من الحاكم الى المحكوم ومن المحكوم الى الحاكم.

هناك الآلاف من النابهين الذين يعيشون خارج حدود اوطانهم الام، من اهل الخبرة والمعرفة التي ما احوج البلاد الاصلية اليها. ولكي يعودوا لا بد لهم من تشجيع حقيقي مترجم بفعل وليس عن طريق خطب رنانة نسمعها كل يوم ونعرف انها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به.

بداية الحل في العالم العربي هي ان يقول لنا وزراء المغتربين او وزراء الهجرة هل هم وزراء لمغتربي الداخل ام لمغتربي الخارج. اذا كانوا بالفعل وزراء للخارج فعليهم ان يقبلوا بمعايير الخارج، معايير الخارج هي الفعل وليس القول. هذا هو الالتزام الحقيقي، وليس البلاغة او الانشاء، لان الانفتاح الحقيقي يجعل لدى المغتربين الرغبة للعودة وبحب وشوق، اما اذا دفن بعضنا الرؤوس في الرمال ظنا ان حلو الكلام يغني عن العمل، فأقولها لهم بصراحة هنا: تصبحون «انتو المغتربين».