حرب استباقية في صناديق الاقتراع الأمريكية

TT

الاستباقية والتفرد هما المصطلحان الأكثر استخداما ضد السياسة الخارجية للرئيس جورج دبليو بوش في حملة الانتخابات الرئاسية الحالية، فالسناتور جون كيري، مرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة، يتهم بوش بالتنصل من تقليد راسخ في السياسة الخارجية الأميركية. ويقول كيري إن على الولايات المتحدة أن لا تستخدم القوة إلا بعد أن تتعرض إلى هجوم، وفقط بالارتباط مع حلفاء ومصادقة من جانب الأمم المتحدة.

ويؤكد كيري أن الاستباقية والانفرادية مذهبان غريبان عن التقاليد الأميركية. ولكن هل هما غريبان فعلا؟

إن لكل من نمط السياسة الخارجية التي يعرضها كيري، والتي مارسها بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر2001، جذورا عميقة في التاريخ الأميركي، فعندما نشأت الولايات المتحدة كدولة مستقلة في القرن الثامن عشر، كان العالم بأسره محكوما من الناحية الفعلية من جانب القوى الكولونيالية الأوروبية. وكان الهم الرئيسي للزعماء الأميركيين الأوائل، تفادي الخصومات مع أوروبا وتجنب المشاكل في فنائهم الخلفي.

وكان جورج واشنطن وتوماس جيفرسون متلهفين لإبقاء الدولة الحديثة بعيدة عن الحروب الخارجية كأمر يتوافق مع مصالحهما، وكاستجابة للمشاعر اللاعنفية التي كان من يطلق عليهم «الأصحاب» يدعون إليها في ذلك الوقت. وكان توفير حياة آمنة بعيدا عن الحروب الأوروبية التي لا نهاية لها، أحد نقاط جاذبية العالم الجديد. ودعا جيفرسون تلك السياسة «الانعزالية» التي تعني في التطبيق العملي الابتعاد عن المشاكل حتى إذا تطلب ذلك الاعتذار بطريقة مذلة، فخلال الحروب النابليونية، على سبيل المثال، قررت الولايات المتحدة أن توقف تجارتها البحرية تماما لتتجنب الصدامات المحتملة مع البريطانيين والفرنسيين. غير أنه في عام 1812، هاجم البريطانيون الولايات المتحدة، مظهرين، لا للمرة الأولى في التاريخ، أنه عندما تخاض حرب كبرى في مكان ما، فإنها يمكن أن تسحب دولا أخرى للمشاركة فيها.

وفي عام 1814، أغار البريطانيون على واشنطن، العاصمة الجديدة للولايات المتحدة الحديثة النشوء، وأشعلوا النيران في البيت الأبيض. وأظهر الهجوم المفاجئ أن سياسة «الانعزالية» لم تضمن الأمن للولايات المتحدة.

وانتقد وزير الخارجية جون كوينسي آدمز «حماقة» تلك السياسة، وجاء بسياسة أمن قومي جديدة لا تأخذ بالاعتبار، فقط المواجهة مع الأعداء الحقيقيين، وإنما أيضا حروب الاستباق ضد الأعداء المحتملين.

وتوصل آدمز الى انه تعين على الولايات المتحدة أن تتخلى عن صورتها المتواضعة وتصبح أكثر بروزا. وبدلا من الهروب من الخطر تعين على الولايات المتحدة أن تشخص وتدمر مصادر الخطر. وقبل جورج بوش بقرنين أدرك آدمز خطر ما نسميه الآن «الدول المنبوذة»، فمثل هذه الدول يمكن أن توفر ملاذا لقطاع الطرق والقراصنة، وهم أسلاف إرهابيي الحاضر، أو موطئ قدم للقوى الأوروبية المعادية. وبالتالي، فإنه لا يمكن التسامح معهم. ووجد مذهب آدمز تعبيره الدراماتيكي الأول في المواجهة مع أسبانيا حول فلوريدا، فقد طلب آدمز من الاسبان الذين كانوا يسيطرون على فلوريدا، إما أن يحرسوها بشكل كامل ومناسب، أو «يتنازلوا عنها إلى الولايات المتحدة كمقاطعة». وبالتوافق مع مذهب الاستباقية، انتهت الولايات المتحدة إلى ضم فلوريدا.

وقد تبنى عدد آخر من الرؤساء الأميركيين، في القرن العشرين، نظرية آدمز، فقد استخدمها الرئيس جيمس مونرو أساسا لـ«نظريته» التي اعتبرت أي تدخل أوروبي في نصف الكرة الغربي ذريعة للحرب بالنسبة للولايات المتحدة، فقد ضم الرئيس جيمس بولك تكساس وكاليفورنيا، واستولى الرئيس وليام مكينلي على الفلبين لمنع أي دولة أوروبية أخرى من السيطرة عليها، كما استخدم كل من الرئيس ثيودور روزفلت ووليام هاورد تافت ووودرو ويلسون، وجهات نظر مماثلة لتبرير تدخل استباقي في فنزويلا وجمهورية الدومنيكان وهايتي ونيكارغوا، وأخيرا في المكسيك. بل ان الذراع الطويلة للحرب الاستباقية الأميركية امتدت إلى شمال أفريقيا حيث غزت قوة استطلاعية أميركية الجزائر، للقضاء على القراصنة الذي يشنون غارات على السفن الأميركية في البحر المتوسط.

وبحلول منتصف القرن التاسع عشر قدم تاليران السياسي الفرنسي المخضرم، الذي خدم عهودا في فرنسا، هذه النصيحة للزعماء الأوروبيين: «يجب أن تنتبه أوروبا لأميركا التي تتنامى كل يوم. إن الولايات المتحدة في طريقها لأن تصبح قوة هائلة، وسيأتي اليوم الذي ستريد فيه الولايات المتحدة، منطلق وعيها بقوتها، الإدلاء برأيها في كل قضية. إن الفطنة والحكمة تمليان على حكومات القارة القديمة الامتناع عن منح الولايات المتحدة ذريعة للتدخل في أوروبا». وقد قدمت هذه الذريعة خلال الحرب العالمية الأولى عندما حاولت ألمانيا عرقلة خطوط الملاحة الأميركية في المحيط الاطلسي، وانتهى الأمر بدخول الولايات المتحدة طرفا في النزاع. ونتج عن ذلك قرن تقريبا من التدخل الأميركي في النزاعات، بما في ذلك قيادة الحربين العالميتين.

واستمر عدة رؤساء، من بينهم ووارن هاردنيغ وكالفين كوليدج، في بناء القوة العسكرية الأميركية، في الوقت الذي ابتعدوا فيه عن التدخل في ما وراء نصف الكرة الغربي. وعشية الحرب العالمية الثانية، جدد الرئيس فرانكلين روزفلت المشاعر الانعزالية في الولايات المتحدة، التي استغلها لوبي موال لألمانيا أصر على إبعاد الأميركيين عن الحرب إلى أن يهزم هتلر بريطانيا، غير أن الهجوم الياباني المفاجئ على بيرل هاربور في 1941، أجبر روزفلت على التخلي عن تلك النظرية الانعزالية وتبوء موقع قيادي في الحرب ضد المحور.

ولم يمارس روزفلت سياسة استباقية ولا أحادية، كما لم يسع إلى السيطرة. ففي يالطا، كان على استعداد لمشاركة أوروبا ما بعد الحرب مع ستالين، وحاول الاعتماد على إجماع باقي اللاعبين الدوليين الآخرين لخلق نظام عالمي مستقر.

وبعد تحقيق الانتصار في الحرب، طورت الولايات المتحدة في عهد هاري ترومان، نظرية الاحتواء، فلم يعد من الممكن الانعزال في عالم يتحدث فيه القادة السوفيات عن «دفن الرأسمالية» وغزو العالم. وفي الوقت ذاته، لم تتمكن الولايات المتحدة من إحياء النظرية الاستباقية لآدمز، التي كان من الممكن أن تثير معركة نووية فاصلة. وكحل وسط، طور ترومان نظرية متعددة تتركز على معاهدة حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، مدعومة بتحالف أصغر في الشرق الأوسط وآسيا.

ولكن حتى في ذلك الوقت لم يتخل ترومان كليا عن مبدأ آدمز. وقد هدد في عامي 1946 و1947 باستخدام الأسلحة النووية لإقناع ستالين بالكف عن مساعدة رجال العصابات الشيوعيين في اليونان، وسحب الجيش الأحمر من الأجزاء الشمالية الغربية لإيران. كما يمكن النظر إلى التدخل الأميركي في شبه الجزيرة الكورية، كنوع من الإجراء الاستباقي، لأنه منع الشيوعيين في كوريا الشمالية من ضم الجنوب.

وأعاد الرئيس نيكسون مفهوم الاحتواء ليعني الوفاق، والذي أمد الاتحاد السوفياتي بدفعة جديدة من الطاقة الحيوية عن طريق المساعدات الاقتصادية، والتعامل الدبلوماسي المتكافئ، إضافة إلى إعطاء الاتحاد السوفياتي، وهو الأمر الأكثر أهمية، حق الفيتو على السياسات الدفاعية الأميركية.

أما الخلف الحقيقي للرئيس ترومان، من حيث الإبداع في مجال السياسة الخارجية، فهو الرئيس ريغان، الذي أحيا مفهوم القرن التاسع عشر حول «القوة الساحقة» بديلا لتوازن القوى، لأن الأخير يجعل الولايات المتحدة مساوية لشريكها الضعيف المتمثل في الاتحاد السوفياتي. وقد طور ريغان مفهوم «السحب إلى الوراء»، المقصود منه صراحة تدمير «إمبراطورية الشر» السوفياتية.

وقد كان بوش الأب والرئيس كلينتون، أقرب إلى هاردنغ وكوليدج منهما إلى ترومان وريغان، فقد استخدما القوة الأميركية في الحروب، ولكنهما فشلا في إعادة صياغة الوضع القائم في اتجاه المصالح الأميركية البعيدة المدى. فبوش الأب حرر الكويت، ولكنه ترك صدام حسين في السلطة في العراق، مما خلق وضعا غير مستقر. وعندما فعل ذلك، فقد تجاهل الدرس الأول من دروس ميكيافيلي: «إياك أن تترك عدوا جريحا ينعم بالحياة، فإما أن تحوله إلى صديق وإما أن تقتله».

أما الرئيس كلينتون فقد استخدم القوة الأميركية في البوسنة وكسوفو، ولكنه لم يحقق سوى أهداف قصيرة الأجل. أما الرئيس بوش الحالي، فقد بدأ رئاسته من دون أن تكون لديه سياسة واضحة للأمن القومي. وقد ظهر أحيانا وكأنه تصرف وفق حكمة آيزنهاور القائلة: «إمش الهوينا ولكن إحمل هراوة ضخمة». وفي مرات أخرى، اتبع مبدأ جيفرسون الإنعزالي. ولكن هجمات 11 سبتمبر أجبرت بوش على تبني إستراتيجية واضحة للأمن القومي. ولم يكن بإمكانه أن يتبع سياسة «أهرب وأختبئ» عندما كانت أغلبية الأميركيين، الذين أغضبتهم الضربات، تنادي بالرد العملي. كما لم يكن في مقدوره أن يتبنى مفهوم ترومان حول الاحتواء، لأن الجهة التي يمكن احتواؤها لم تكن واضحة، وليس معروفا أين تختبئ. كان عليه إذن أن يبعث من جديد مبدأ آدم، وهو استخدام القوة الأميركية لتدمير مصادر الخطر.

ما يقترحه كيري هو مزيج من استراتيجيتي الهروب والاختباء من جانب، والاحتواء من الجانب الآخر، وكلتاهما لا تخاطبان واقع اليوم.

إن الخيار أمام الناخب الأميركي واضح تماما.