مسيحيو العراق بعد التفجيرات.. هل تدعهم الجذور يبتعدون؟

TT

يذكّر تدمير كنائس العراق، بهذه الموجة الرهيبة من العنف، بحرق معابد اليهود والتي صاحبها «فرهود»، اي سلب ونهب، لدورهم ومحلاتهم التجارية، ثم أسفر عن هجرة جماعية كانت الدولة آنذاك طرفاً فيها. فوجود إسرائيل أدى إلى حرمان اليهود العراقيين من الوظائف وحتى أطفالهم من المدارس، وكانت محاكمات عبد الله النعساني تحكم فيهم بالعقوبات، شمالاً وجنوباً، واشتدت ضدهم شوكة النازية ممثلة بانقلاب مايو 1941، وتحريض صحافة حزب الاستقلال والصحف القومية ضدهم. ومع ذلك لم تمح تلك الممارسة معالم طريق العودة إلى العراق، فهناك من الشباب الذين ولدوا في الخارج ونشأوا فيه يفكرون بالعودة إلى أرض الأجداد. فالجذور عميقة جداً، لا يساوي الزمن الصهيوني الزائل لمحة منها، فهناك قبر حزقيال أو ذي الكفل، وقبر عزار أو العزير، وأماكن مقدسة عديدة، ووشائج دفعت مير بصري أن لا يكتب إلا قواميس في رجال العراق ومدنه، وجعلت سمير نقاش لا يكتب إلا باللهجة العراقية.

أما المسيحيون فأمرهم آخر، فلا دولة إسرائيل تفرق بينهم وبين المسلمين، ولا سلطة تشجع على هجرتهم، بل بالعكس تعمل السلطة العراقية الحالية رغم تواضع الإمكانيات لحمايتهم ومشاركتهم في الدولة، وهم عصب أساسي في الجسد العراقي. يعود تاريخ المسيحية بالعراق إلى القرن الأول الميلادي، ثم نشأة كنيستها الأولى (كوخي) بالمدائن، التي كانت تعرف بطيسفون. وبطبيعة الحال لعبت السياسة دورها في الفرج والشدة تجاه المسيحيين، فتقلبت الأحوال معهم من ملك ساساني إلى آخر، وكلما توفرت فرص السلام مع الرومان أفرج عنهم، وكذلك ضُغط عليهم في تعميق الخلاف المذهبي بين كنيسة الرومان والكنيسة الشرقية، وجعل الملوك الفرس رهبانهم في مقدمة الجيش أوان الحروب مع الرومان. لكن في كل الأحوال، تعامل جلاثقة العراق مع الحال السياسية كتحصيل حاصل، زمن يمر ويبقى الدين وتبقى الكنيسة، فكان جل اهتمامهم في المدارس والتعليم الديني والتخفيف من معاناة الناس في التركيز على الطب والعلوم والتقليل من الخطايا.

استمر هذا الحال حتى العهد الإسلامي، فقد وجدوا في الإسلام ما هو أفضل مما في المجوسية، التي أذاقتهم العذاب والإرهاب كلما غضب عليهم ملك أو موبذ موبذان. فتألقت الكنيسة الشرقية بالعراق في زمن جاثليقها طيماثيوس الكبير، وفي بداية رئاسته للكنيسة الشرقية نقل كرسي البطريركية من المدائن إلى بغداد، ليكون قريباً من بلاط الخلافة العباسية. وكتب مشدداً على استنفاد كل إمكانية ومجال للتعايش مع المسلمين، قال: «إنهم لم يكرهوننا قط على عمل شيء يمس الدين»، مستشهداً بالآية: «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وهم لا يستكبرون»

عاصر طيماثيوس خمسة خلفاء عباسيين هم: المهدي (775 ـ 785م)، والهادي (785 ـ 786) والرشيد (786 ـ 809) والأمين (809 ـ 813) والمأمون (813 ـ 833). وكانت فترة مثمرة في العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، وقد اشتهرت فيها حوارات طيماثيوس العقائدية مع الخليفة المهدي بن المنصور، وعلماء المسلمين حول الثالوث المقدس، أوضح الجاثليق فيها أنهم يقولون الله واحد أحد. سأله المهدي: «أتؤمن بالأب والابن والروح القدس»، أجاب الجاثليق بقوله: «أيها الملك، إن الاعتقاد بهذه الأسماء الثلاثة هو اعتقاد بثلاثة أقانيم، أعني الأب والابن والروح القدس، الذين هم إله وطبيعة واحدة وجوهر واحد، كذا نؤمن ونعتقد، على ما علمنا صريحاً عيسى عليه السلام. وتعلمنا ذلك أيضاً من الأنبياء، ولنا برهان على ذلك في المخلوقات. فكما أن ملكنا (المهدي) محب الله هو واحد مع كلمته وروحه وليس بثلاثة ملوك، ولا يمكن أن تنفصل منه كلمته وروحه، ولا يسمى ملكاً دون الكلمة والروح، هكذا الله تعالى إنه واحد مع كلمته وروحه وليس بثلاثة آلهة، إذ لا يمكن أن تنفصل منه الكلمة والروح، كذا الشمس مع أشعتها وحرارتها هي واحدة وليس بثلاث شموس» (مجلة بين النهرين). فقال الخليفة: «بل تنفصل الكلمة والروح من الله»؟ أجاب الجاثليق بقوله: «حاشا وكلا، فكما أن الأشعة والحرارة لا تنفصلان من الشمس قطعاً هكذا كلمة الله وروحه لا تنفصلان منه أبداً، وكما أنه إذا انفصلت أشعة الشمس وحرارتها منها يزول نورها وحرارتها، ولا يمكن أن تدعى شمساً، هكذا الله سبحانه إذا أنفصلت الكلمة والروح يكون لا ناطقاً ولا حياً. أما الناطق فلا يقال عنه إنه معدوم الحياة والروح، فإن تجاسر أحد وقال عن الله إنه كان موجوداً في زمانٍ ما دون الكلمة والروح فقد جدّف (كفر) لأن الله سبحانه منذ الأزل كان له الكلمة مولوداً، كينبوع النطق، وكانت تنبثق منه الروح سرمدية كينبوع الحياة». عمدنا إلى ذكر مثل هذه المحاورة لتوضيح أن المسيحيين لم يكونوا جسماً غريباً بين المسلمين، وأن الحوار كان جارياً في أعلى المراكز، بين جاثليق الكنيسة وبين خليفة المسلمين، وفي أدق المسائل وأكثرها حذراً.

أطلقت المصادر المسيحية التاريخية على السيدة زبيدة بنت جعفر بن المنصور لقب المحسنة الكبيرة، فكانت تُكرم طيماثيوس كثيراً، وتميل إلى النصارى وتستخدمهم، وأخرجت توقيع الرشيد بإعادة المستهدم من الدير وتوسيعه، وعملت أعلام السعانين. على مر العصور حاول المسيحيون، وأهل الذمة كافة، أن يثبوا في الدولة الإسلامية عبر العلوم والفنون، فالطب كان مآلهم الأول بعد الكتابة والمحاسبة. ووجد عملهم في الإدارة العباسية الترحيب والتقدير من قبل الخلفاء، بينما وجد الصدود والتشكيك من قبل المحتسبين والفقهاء المتشددين، فحدث في السنة 627 هـ أن جلس «محمد بن فضلان في ديوان الجوالي واستوفى الجزية من أهل الذمة، فكان أحدهم يقف بين يديه إلى أن توزن جزيته، ويكتب له، وهو صاغر، فلقوا من ذلك شدة، وكان أبو علي ابن المسيحي رئيس الطب له اختصاص ودخول إلى دار الخليفة، فأظهر المرض واعتذر، وسأل أن تؤخذ جزيته من يد ولده، فلم تقبل منه، فحضر وأداها. ومضى ابن الشويح رأس مشيئة اليهود إلى داره ليلاً، وسأله أن يأخذ الجزية منه، فلم يلتفت إليه، وقال له: لابد أن تحضر نهاراً إلى الديوان وتؤديها، وشدد في ذلك ولم يسامح أحداً» (الحوادث الجامعة). وقد وجه ابن فضلان (ليس صاحب الرحلة المشهورة) رسالة شديدة بأمرهم إلى الخليفة الناصر لدين الله (ت 622 هـ) يطلب منه التشدد ضدهم وإذلالهم، إلا أن الناصر أهمل الرسالة ولم يجبه بشيء. بطبيعة الحال أن حالة التشدد التي يفرضها الفقيه أو المحتسب ليست خاصة بأهل الذمة فقط، وإنما يعم التشدد إلى الفرق والمذاهب الأخرى، وهذا ما حدث في زمن الخليفة جعفر المتوكل. وفي حمية الخلاف المذهبي قال القاضي البلاساغوني (مصنف أُصول الفقه على المذهب الحنفي): «لو كان إليَّ الأمر لأخذت الجزية من الشافعية» (مرآة الزمان)، فقال فيه ابن عساكر الشافعي: «لم تكن سيرته محمودة»، ولا صلة لهذا التمني بفقه وتسامح الإمام أبي حنيفة النعمان، ولا بأعلمية وتعفف الإمام محمد بن إدريس الشافعي.

نستطيع القول إن بذرة الانتخاب الذي سيتوجه إليه العراقيون هي أثر من آثار تقاليد الكنيسة الشرقية والمجامع المسيحية بالمدائن وبغداد، فليس هناك تعيين لرأس الكنيسة إلا عبر عملية انتخاب، جرت الكنيسة على هذه العادة منذ نشأتها بالمدائن في القرون الميلادية الأولى وحتى الآن. ففي القرن الميلادي الخامس أصبح مغولياً جاثليقاً، ذلك بعد وصول المسيحية عبر العراق إلى الهند وما وراء النهر، فاعتنقها الكثير من المغول. وهذا حاضر أيضاً بين المسلمين، فما عدا تعيين الدولة لمفتي بغداد، فالشيعة ليس لديهم تعيين مرجع، وإنما يحقق مرجعيته عبر أعلميته وحضوره، وكذلك ليس عند أهل السنَّة، قبل تأسيس هيئة علماء المسلمين من تعيين في منصب ديني، إنما يبرز العالم الديني تلقائياً. فبلد فيه مثل هذه الخلفية الدينية ألا يتمكن من الحياة بشكل أفضل؟

أقول، عندما ينفلت التشدد والعنف من عقاله لا يميز بين مسلم ومسيحي، وبين كنيسة وجامع، وبين دير وضريح، فإذا اتُهم المسلمون كافة بتفجير الكنائس، وفك شراكة المواطنة مع المسيحين فمَنْ يتهم بتفجير ضريح الإمام علي بن أبي طالب وقتل آية الله محمد باقر الحكيم، الذي لم يبق منه سوى خنصره، ومَنْ جال برعبه وفزعه وسط مدينة سامراء ؟ ومَنْ أردى حياة الشباب الشيعة والكرد السنَّة على باب الفلوجة، ومَنْ أغتال اثنين من هيئة علماء المسلمين العرب السنَّة ؟ أسئلة نضعها أمامنا ونحن نقرأ تاريخ الشراكة بين المسيحيين والمسلمين، وما يدور حولهما معاً اليوم.

عموماً، مَنْ يراجع التاريخ الذي تقدمنا به، ثم يقرأ «ديارات» الشابشتي، و«ديارات» أبي فرج الأصفهاني، ومعجم بلدان ياقوت الحموي وغيرها من كتب الأمكنة سيجد جوراً في حكمه بأن الإسلام لا يقبل الآخر، وأن هجرة مسيحيي العراق أولى من بقائهم في أرض لهم في كل ذرة منها لمسة وذكرى.

* باحث عراقي