الأثير المسكين

TT

بدل ان اتابع الانتخابات البلدية السعودية في مسار طويل، خطر لي سؤال ساذج: من اعاق او اعدم او الغى الحركة نحو الديمقراطية في العالم العربي؟ يقتضي الجواب شيئاً من التاريخ غير القابل للنسيان: بعد ستة اشهر على وصول جمال عبد الناصر الى الحكم مع رفاق 23 يوليو، عمدت الثورة الى تحريم الاحزاب ومنعها وتجريمها. وختمت بالشمع الاحمر اول واهم تجربة ديمقراطية في العالم العربي. مرحلة لم يكن فيها الملك قادراً على معارضة حزب «الوفد»، وكانت فيها سيدة صحافية تهز حكومة النحاس باشا، وكان فيها كاتب اسمه عباس محمود العقاد يعصف بالوضع السياسي برمته بافتتاحية غاضبة. جاءت الثورة وقالت خلاص! ونزل الازلام الى الشوارع يرددون هتافاً لا سابقة له على الارض: لا حرية ولا دستور! وأُممت الصحافة. وفُتحت ابواب ليمان طرة وعلت اسواره. وتساقط «الضباط الاحرار» واحداً بعد الآخر. وراحت مصر تعبر عن نفسها بالنكتة بعدما كانت المثال الذي قلّده نهرو.

رجل واحد وحزب واحد.

وكان في العراق برلمان وصحافة وحرية ومؤسسات ومستقبل. فوصلت ثقافة الذبح ولم يعد هناك «زعيم الاّ كريم» الذي عاد فتوسل عبد السلام عارف الا يعدمه. وكانت شرايين عارف تغلي بالوطنية والقومية، فترك الزعيم يخرج الى غرفة مجاورة وبعدها سمع بهدوء صوت الرصاص. لم يطاوعه قلبه ان يتفرج كما كان سيفعل الرئيس البطل صدام.

ونالت عزيزتنا الجزائر الاستقلال بعد مليون شهيد. وبدل ان تفعل ما فعلته الهند، اي ان تطرد الاستعمار وتأخذ منه افضل ما لديه، فضَّلت النموذج السوفياتي. وتساقط ابطال الثورة واحداً بعد الآخر وبقي واحد هو كل شيء. وبقي الحزب.

وجاءت الثورة الليبية تهتف باسم جمال عبد الناصر. والهتاف التالي كان على الفور «من تحزَّب خان». وشيئاً فشيئاً تساقط جميع الرفاق وبقي القائد. واللجان. وكانت سورية ساحة الناصرية الكبرى وحقل الاحزاب فجاء حزب البعث وصار كل شيء سواه مجرد ظل من التاريخ وكتبة مذكرات. وفي السودان الذي صدَّ دبابات ابراهيم عبّود بصدره العاري، نجحت دبابة اخرى في الاختراق. وربضت. وبدل تناوب البرلمانات تتناوب الدبابات منذ ذلك الوقت. وفي اليمن الجنوبي سالت دماء الرفاق كالانهر من اجل تطبيق «الاشتراكية العلمية». وفي اليمن الموّحد لا يمدد الرئيس لنفسه بل الشعب هو الذي يفعل. وفي تونس الخضراء سوف تمهّد الولاية الرابعة للولاية الرابعة عشرة، ولكن طبعاً عبر صناديق الاقتراع وتحت شعار الديمقراطية. وفي فلسطين كان ابو عمار محاطاً بالرفاق فأصبح محاطاً بنفسه.

الدول الوحيدة التي عرفت خلال هذه الفترة تجارب قريبة من الديمقراطية هي المغرب والكويت والاردن، اي صاحبة الانظمة «الرجعية». ففيها تمثل الحكومات والبرلمانات القطاع الاكبر من الناس. وقد تأخرت كل حركة اصلاحية في الخليج لأنه لم يمض ليلة هانئة واحدة منذ اختراع «صوت العرب» وما تبعه من اصوات. وفي اي حال لم يكن «صوت العرب» يطالب بانتخابات في البلدان الاخرى بل بحزب واحد ورجل واحد وملهم واحد. والانتخابات البلدية في السعودية خطوة في مسار هادئ، نتمنى ان يعفى من المخلفات الاذاعية وورثتها الفضائية.