قانون 1905 معرض للتغيير في مئويته

TT

من الطبيعي أن يثير كتاب نيكولا ساركوزي، وزير المالية الفرنسي الحالي، والمرشح الأكثر حظا لخلافة الرئيس شيراك، الذي يصدر هذه الأيام بعنوان «الجمهورية، الأديان، والأمل»، ضجة هائلة في البلد الذي صاغ النظام العلماني وتبناه عقيدة سياسية مكينة ارتبطت عضويا بنموذج الجمهورية.

ومن المعروف أن فرنسا تحضر للاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لصدور قانون 1905، الذي كرس الفصل الجذري بين الدولة والدين، وألغى كافة الامتيازات الممنوحة للكنيسة الكاثوليكية، وأرسى نظاما تعليميا وتشريعيا لا تأثير للدين فيه.

فما الذي استجد حتى صار أحد أبرز الزعماء السياسيين الفرنسيين وأكثرهم شعبية، يطالب من دون خجل ولا استحياء بمراجعة نظام العلمانية المقدس، من أجل إعادة الاعتبار للقيم الدينية في الشأن الاجتماعي والمدني، ومن أجل إعادة تحديد العلاقة بالمؤسسة الدينية؟

لا بد من الإشارة هنا، إلى الاختلاف الواسع بين الساحة الفرنسية وأغلب الساحات الغربية الأخرى، التي احتفظت دوما للدين ببعض الدور في الشأن العام، كما هو شأن بريطانيا، حيث ترأس الملكة الكنيسة القومية، أو في اليونان حيث ينص الدستور على دين للدولة، أو في الولايات المتحدة الأميركية التي تتميز بالتوظيف الهائل للدين شعارا وطقوسا في المنافسات الانتخابية، كما نشاهد حاليا في السباق على مقعد الرئاسة بين بوش وكيري.

أما في فرنسا، حيث تصل نسبة الممارسة الدينية إلى أقل من 20 في المائة، نلاحظ عزوف الطبقة السياسية عن إظهار التزامها الديني، بدءا من الزعيم البارز الجنرال ديغول، الذي عرف بتدينه الشخصي الذي لم يخرجه أبدا للعلن، مرورا بالرئيس ميتران، الذي رغم اعترافه بفضوله الفكري إزاء المسألة الدينية، إلا أنّه لم يكن مؤمنا بأي من الديانات القائمة، انتهاء بالرئيس الحالي شيراك الذي وإن كان لا يخفي انتماءه الكاثوليكي القوي، إلا أنّه حريص على عدم توظيفه سياسيا ولم يفتأ يدافع بقوة عن النظام العلماني.

لذا، فعودة الحساسية الدينية إلى الحوار السياسي المجتمعي في فرنسا، ليست دليل صحوة دينية جديدة، وإنما هي وثيقة الصلة بتحولات الفضاء المدني الاجتماعي ذاته، في مرحلة لم يعد فيها الدين يشكل جزءا من «فضاء المقدسات المجمع عليها» حسب عبارة المؤرخ لروا لاديري. فهذا الفضاء تندرج فيه قيم جديدة مثل معاداة العنصرية، والدفاع عن الأقليات المضطهدة قوميا واجتماعيا، والدفاع عن البيئة…أما الدين فقد توزع إلى ممارسة فردية حرة لا أثر لها في الرهان العام، والى مؤسسة عامة هشة التركيبة محدودة التأثير.

بيد أن النظام الجمهوري الفرنسي الذي قام على فكرة المواطنة المنسجمة من حيث العلاقة المباشرة بين الذات الفردية الحرة والدولة، بصفتها كيانا قوميا شاملاً من دون توسط، عرف في العقود الأخيرة جملة تصدعات، راجعة لانحسار دوائر الانتماء المشترك وتراجع دورها في التنشئة العامة، مثل المصنع والمدرسة والجيش… لأسباب ليس هذا مجال التعرض لها.

ولا شك أن المجتمع الفرنسي غدا يعرف بصفة متزايدة الظواهر المألوفة في المجتمعات الغربية الأخرى، من قيام وتزايد النزعات الخصوصية، وانفجار الهويات الاجتماعية والطائفية والجنسية والدينية. وهو المشهد الذي عززته ظاهرة الهجرة الإسلامية التي بلغت أوجها في فرنسا، حيث تصل نسبة المسلمين الى خمسة ملايين، مما يجعل من الدين الإسلامي الديانة الثانية في البلاد.

لذا، كما يقول جيل كيبل، فانه إذا كان الغرض من قانون 1905 هو الفصل بين الكنيسة والدولة، فإن المطلوب الآن هو نمط جديد من الدمج لمعالجة الاختلالات الناتجة عن التشتت الطائفي والتجزئة الاجتماعية.

فالهم الذي يشغل الآن الطبقة السياسية الفرنسية، هو كيف يمكن للنظام الجمهوري أن يستوعب واقع التنوع الديني والثقافي المتزايد؟ وهل تكون الاستجابة هي الحفاظ على نوع من النواة القومية الأصلية المتجانسة، المستندة الى تركة تاريخية خصوصية، كما هو رأي التيار اليميني المتطرف، أم تكون بإعادة التفكير في النظام العلماني ذاته، بممارسة ما دعاه ساركوزي بصيغة «نشطة» من العلمانية، تعيد الاعتبار للدين لا من حيث هو سلطة تنافس الدولة أو تؤثر فيها وإنما من حيث هو روح دافعة وقيم دمج وتعاضد.

ففي الفصول الستة من كتابه الجديد، الذي يخصص واحدًا منها «للإسلام والجمهورية»، يذهب إلى أن الغرض من دعوته لإعادة النظر في النظام العلماني القائم، هو «إنتاج موجهات قيمية جديدة» تسد حالة الفراغ العقدي والانحراف السلوكي التي تهدد اللحمة الاجتماعية، ذلك أن الدين هو نداء أمل وحافز تمدن وحضارة وطاقة فعل وإنجاز، ومن ثم يتعين تدريسه للشباب «إذ لا يمكن أن نربي الشباب بالاعتماد فقط على القيم الزمنية، المادية، وحتى القيم الجمهورية ذاتها».

من هذا المنظور، يكتسي دمج الجالية المسلمة في المجتمع الفرنسي أهمية خاصة في مشروع ساركوزي، من خلال اتباع سياسة تمييز إيجابي تجاهها، ومساعدتها على تحقيق الشروط الموضوعة لممارسة شعائرها بحرية ودون عوائق، معتبرًا أن فهم الإسلام والحوار مع المسلمين يتطلبان التخفيف من العلمانية الراديكالية الفرنسية التي تتخذ أحيانا صيغة انتقامية عدوانية.

ومن المثير هنا، أن ساركوزي الذي كان أوّل زعيم سياسي فرنسي يتجرأ على المطالبة بإعادة النظر في النظام العلماني، يرد على سؤال يتعلق بإيمانه الديني بالقول «أتطلع إلى أن يقربني تقدم العمر من نمط من الممارسة الدينية»، وموضحا أنّه يتحدر من وسط كاثولوكي وإن كان لا يمارس الطقوس إلا قليلا وبصفة متقطعة، معتبرًا أن ما يهمه في الدين هو «حرية الرجاء» وأمل العدل المطلق.

وهو في هذا القول لا يختلف كثيرًا عن منافسه الاشتراكي لينول جوسبين، الذي يعتبر نفسه ملحدًا بروتستانيًا وعلمانيًا حساسًا للمسألة الدينية.

من الواضح إذن، أن عودة الاهتمام بالمسألة الدينية والحوار المتزايد حول الإرث العلماني في فرنسا، لا يعكسان استفاقة دينية جديدة ولا تهديدًا للنظام الجمهوري العلماني القائم، وإنما هما من مظاهر التحول البنيوي الجذري الذي عرفه المجتمع الأهلي، من حيث تركيبته وعلاقته بالحقل السياسي، في مرحلة تقلصت قبضة السلطة المركزية على الحراك الاجتماعي.

يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشال سر، انه قبل عشرين سنة عندما كان يريد جذب اهتمام طلبته، يحدثهم عن السياسة، وعندما كان يريد أن يستثير استهزاءهم يحدثهم عن الدين، أم اليوم فقد انعكست المعادلة وأصبح الدين هو الهم الإشكالي الأساسي والسياسة لم تعد تثير اهتمامًا.

[email protected]