العرب الأميركيون مخطئون مرة أخرى في استحقاق عام 2004

TT

«يداك أوكأتا وفوك نفخ»، مقولة قديمة تنطبق على وصف اقتراع العرب الأميركيين إبان الانتخابات الرئاسية عام 2000. انتخابات منح أغلب منتخبيها من الجالية أصواتهم للمرشح الجمهوري جورج دبليو بوش بدلا من الديمقراطي آل غور. وطيلة الأربع سنوات الماضية لم يتوقف هؤلاء عن التنديد بـ«خيانة» الرئيس لأصواتهم، وها هم اليوم يحاولون الانتقام بعملية تصويت جماعية للمرشح الديمقراطي جون كيري.

صحيح أن العرب والمسلمين عموما في أميركا يناهز تعدادهم 7 ملايين نسمة، لكن الفئة المؤهلة للتصويت لا تفوق المليوني ناخب، مع انتشار أساسي في بعض الولايات، كميشغن وكاليفورنيا وفيلادلفيا، ورمزي في غيرها.

شئنا أم أبينا، فان تصويت هذه الجالية في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، هو تصويت أيضا عن غيرها من العرب خارج أميركا، ومن ثم تحق دعوتها للتبصر أكثر في ما هي مقبلة عليه. ففرصة التصويت في اقتراع مثل هذا، لانتخاب رئيس دولة تتحكم في مصائر المال والعباد، خصوصا في الشرق الأوسط، لا يعامل بعاطفة رد الفعل أو منطق «الخيانة» و«الانتقام»، كونها طريقة غير مجدية في التعامل مع سياسات المنتخبين لرئاسة البيت الأبيض حاضرا أو مستقبلا. وأثار اهتمامي كثيرا ذلك الانجراف العارم عام 2000 من قبل هذه الشريحة الواسعة من المصوتين العرب، لمّا جهدت على إقناع ذويها في الولايات الأميركية المختلفة بأن جورج دبليو بوش هو مرشحها المفضل لقيادة أميركا. إعجاب، عاد سره لإعجابهم بدور والده بوش (الأب) في حرب الخليج الأولى، وذلك قبل 10 سنوات خلت!

ودون أي شك، لم تنتظر هذه الجالية طويلا لتلسعها نار اختيارها الخاطئ بعد أن أصبحت، غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، متهمة بالضلوع في الإرهاب.

وكما استهدف غيرها من العرب في الخارج، استهدفت هي أيضا في الداخل وحوصرت بترسانة من القوانين مثل «الباتريوت آكت»، وإجراءات تعسفية ـ أمنية كالفرز العرقي في المطارات (الداخلية) والاعتقال أحيانا من غير ذنب. فضلا عن أمور أخرى تتعلق بالتدقيق في تجارتها ونشاط منظماتها الخيرية. وهنا، أستذكر مأساة عائلة العشي (الفلسطينية الأصل) في مدينة دالاس (ولاية تكساس)، التي اعتقل أبناؤها الأربعة (رجال أعمال مرموقين في وسطهم) منذ أكثر من عامين، وها هم ما يزالون على ذات الحال قابعين في سجونهم.

ولذا، أعود وأقول إنني لا أستطيع أن أتفهم كيف بإمكان أحد أن يرى خيرا من وراء ذريته (بوش الأب)، لا سيما إذا علمنا أنه أحد مهندسي النظام العالمي الجديد الذي حضّر لأميركا أن تكون اليوم، كما هي عليه، تصول وتجول كما ترغب.

أما عن مسألة «الخيانة» المتهم بها بوش الابن من قبل منتخبيه العرب، فإنني لا أراه خائنا، بل كان رئيسا وفيا لأبيه وسياسته طيلة حكمه، ومن ثم لمن صوتوا له. فقد أتى الفتى، كما كان متوقعا، وأنهى «مشروع» والده، الذي توارى الرئيس الديمقراطي، في ما بعد، بيل كلينتون المضي فيه وإزالة النظام العراقي السابق باللجوء إلى استخدام القوة. لكن عربنا في أميركا، على حد قول بعضهم، لم يروا أبدا أن حرب الخليج الأولى فتحت أبواب جهنم عليهم وعلى غيرهم في المنطقة، ولم يكن من المفخرة والعزة أن يساهموا في التصويت للابن أو أيّ من أفراد آل بوش. مفخرة وإعجاب جعلا شخصية عربية آنذاك تفقد التمييز بين الأسود والأبيض لتعرب أمام الملأ قائلة: «لم تلد النساء مثل بوش»، تيمنا بقول الرسول (ص) في وصفه الصحابي خالد بن الوليد (رضي الله عنه) «عقمت النساء بعد خالد».

وهذا ما يقودني إلى اعتبار الاقتراع العربي الأميركي على الجمهوري بوش عام 2000 ، ضربا من الممارسة السياسية غير الناضجة لفئة تتعلم كيف تشق طريقها وتحقق نفوذها بين معسكري الديمقراطيين والجمهوريين.

أما اليوم ونحن أمام استحقاق رئاسي جديد يبقى السؤال، هل فعلا السيناتور كيري هو البديل لبوش في الوقت الراهن؟

والرد على السؤال، أصبح تقريبا معروفا، إذ كشفت استطلاعات الرأي، ومقالات الصحف الرائدة بين الجالية في أميركا «كصدى الوطن» و«بيروت تايمز» أن جون كيري هو مرشح العرب المفضل، ولو أن جلهم يعترفون بأن كيري لم يقنع أحدا منهم. فمساندة كيري للفوز برئاسة الولايات المتحدة تتحقق فقط لدخوله السباق الرئاسي تحت قبعة الديمقراطيين وكرد فعل للكراهية والاشمئزاز اللذين يشعر بهما الكثيرون تجاه بوش.

ولا أناقض نفسي، إذا قلت أن تحول هذه الفئة من المصوتين إلى معسكر الديمقراطيين في هذا الاستحقاق، ليس أيضا خطوة مستحبة في الظروف التاريخية وتحديات الأمن الدولي التي تجري فيها. فكيري، ليس جون كيندي ولا جيمي كارتر ولا حتى بيل كلينتون. كيري، يبدو المرشح الديمقراطي الخطأ في الوقت الخطأ، ووصوله إلى البيت الأبيض بعد أسابيع قليلة من الآن، إن تأكد، لن يزيد إلا في تعقيد الأمور أكثر في الشرق الأوسط تحديدا.

صحيح، أنه قد يحقق بعد المكاسب داخل أميركا، كما وعد به خلال حملته، من دفاع على حق الأميركيات في الإجهاض وقضايا الميزانية والضرائب وغيرها، لكن مراهنة العرب الاميركيين عليه لتحسين ظروف حياتهم واستعادة حقوقهم هو مجرد ضرب من التفاؤل غير الواقعي. ولو أن الجميع يتمنى رؤية ذلك.

القليل مما قاله المرشح كيري خلال مناظراته مع بوش حول قضايا الشرق الأوسط وأولئك المقبلين منه، لا يبعث على الارتياح إطلاقا. وكان من المفروض أن يسلط الضوء أكثر على تصريحاته «القليلة» تجاه قضايا العرب، كي يكبح هذا الرجل من الوصول إلى البيت الأبيض، وليس التصويت لصالحه. فاختيار كيري لمجرد «مبدأ» رفض بوش من دون التعمق في معرفته، مجازفة قد تحمل في طياتها الكثير من المفاجآت غير السارة. وإذا تحدثنا بلغة الحرب والمواجهة، أي لغة الساعة، فعدو أعرفه أفضل من ذلك الذي لا أعرفه، علما بأنه متفوق علي بمعرفتي أحسن معرفة.

وحتى، وإن لم يسحب كيري القوات الاميركية من العراق، فهو يرى لوجودها «مهمة أخرى» وهي محاربة الإرهاب، بغض النظر على أن هذا الارهاب وليد ظروف الحرب التي شنها بوش وتوني بلير!

ومع ذلك فان مشروع محاربة الإرهاب، على طريقة كيري، ما تزال معالمه ملفوفة بالسرية والغموض. إذ، لا يعلم أحد فعلا مشاريع المرشح الرئاسي في المنطقة، وما ما يدبره للفلسطينيين وحقهم في بناء دولتهم المستقلة، سواء كانت على شبر أو على كامل أرض فلسطين.

وإذا البعض يريحه تمّلص كيري من المستنقع الذي حفرته الإدارة الجمهورية في العراق بحجة ميوله مستقبلا إلى التحالفات الدولية قبل أي «ضربة استباقية»، فان ذلك لا يريحني، شخصيا. أوروبا الآن، تميل رويدا رويدا إلى اعادة علاقاتها مع واشنطن إلى سابق عهدها، وان كانت الضربة الاستباقية الأولى والثانية من دون مشاركة القارة العجوز، فلا يوجد هناك ما يؤكد عدم انضمامها للضربة المقبلة بقيادة كيري.

ومن جهة أخرى، مساعدة الرئيس بوش على مغادرة منصبه بالتصويت ضده سيكون في كافة الأحوال مساهمة في «إخراجه» فائزا، فهو فائز في كلتي الحالتين.

بالفعل، فالرجل في نظر الكثيرين يسجل له إسقاط نظام طالبان في أفغانستان وإرساء أسس دولة أفغانية ذات مؤسسات وتقاليد حضارية في التداول على السلطة. أيضا، سيكون رئيسا فائزا للكثيرين من أشقائنا في العراق، كونه الرئيس الأميركي الذي «حررهم» من نظام أدّل وطغى على جزء كبير منهم.

ومع ذلك، فأي متتبع لما حل بهاتين الدولتين، تحديدا، والطريقة التي تجرى فيهما الأحداث، لا يرغب في رؤية بوش يغادر ونشوة الفوز تلوح في أفق سنوات تقاعده كأنيس له. ثمن «تحرير» العراق أو إزالة حكومة طالبان كان باهظا وما يزال. ولولا نشوة الكرسي، حتى عند رؤساء البيت الأبيض، لكان أفضل لبوش التنحي الآن قبل غد، فالسيناريوهات التي ترتسم للشرق الأوسط لا توحي بما يسر. لكن إصرار بوش على دخول السباق الرئاسي مرة أخرى، يقدم احتمالين لا ثالث لهما:

- الاحتمال الأول هو: إذا سلمنا بخطاب بوش وقناعته الدينية الراسخة بأنه ذلك الرئيس الذي هو في مهمة دنيوية «تجبره» على الحرص على نشر الحرية والديمقراطية بين بعض شعوب هذه المعمورة (والشرق الأوسط على رأسها)، فهذا يجب أن يدفع على الاقبال للتصويت لصالحه وليس اهماله. فالولاية الثانية، ستضع بوش ومصداقية مؤسسات بلاده كلها على المحك أمام المجتمع الدولي، لما كرّره من وعود ببناء «عراق حر ديمقراطي». وفي ضوء هذا الاحتمال، أّذكر بمسؤولية إدارته في مساعدة الحكومة العراقية المؤقتة أو المنتخبة، لا يهم، في الحد من تدحرج العراق يوما بعد يوم نحو أفغانستان طالبان والملا عمر.

- الاحتمال الثاني: والوارد أكثر حدوثه، هو فشل بوش، في الولاية الثانية، (إن استطاع اكمالها) في الإيفاء بما وعد به (محليا ودوليا)، وعندها لن يستطيع المغادرة فائزا، اذ أن التاريخ سيسجل له أنه الرئيس الأميركي الذي قاد جنود بلاده إلى المقصلة وكره العالم في شعبه. ويزيد هذان الاحتمالان في قناعتي، ان السيناتور كيري ليس الرجل المناسب للسنوات الأربع المقبلة، خصوصا أن فرصة بحث مخرج في العراق، لعودة الاستقرار لربوعه، مسألة إن لم تحقق مع إدارة بوش وفريقه فهي ساقطة لا محالة في هاوية التاريخ.

[email protected]