بوش في نسخة معدلة

TT

سيباشر جورج دبليو بوش أعماله في البيت الأبيض بمعنويات من يستأنف عملا بدأه منذ أربع سنوات، وهو مدرك للدروس التي يكون قد استوعبها، وفي رأسه أفكار ثابتة، عن مواصلة ما بدأه، وتصحيح ما يمكن أن يكون قد أدركه من أخطاء.

ونستطيع، ونحن نتحدث عن رجل عرفناه من خلال ما قدمت يداه، أن نستكنه مجموعة اقتناعات حذته إلي أن يقدم على ما أقدم من مبادرات، بعضها تحمل بصمات عهده مباشرة، وبعضها متأثر بنظرة أميركية مسبقة إلى الأمور.

ولأشرح ما أنا بصدده أقول إن ضرب العراق، مثلا، وهو من إنجازاته الشخصية، كان خطوة أخرى في مسلسل لم يبدأ فجأة في ولايته. فإن كلينتون من قبله قد ضرب العراق، وأمعن في استنزافه، وذلك لنفس الغايات التي دفعت بوش، فيما بعد، إلى خوض حرب شاملة. والاختلاف إنما كان في الحجم والمدى. وكذلك الأمر بالنسبة للملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فإن تصرف بوش في الموضوع كان مترتبا عن الفصل الأخير من الملف المذكور، كما تسلمه من إدارة كلينتون. وتعامل معه بنفس الدوافع وبناء على الخلاصات التي تم التوصل إليها من قبل. سيبني بوش في ولايته الثانية على ما سبق أن أتاه في الولاية الأولى، بعقلية من يستأنف عملا بدأه ويقوم بتصحيح خط السير بالنسبة لبعض الجزئيات. وهكذا يمكننا أن نتوقع أن يستمر بوش في إعطاء الضوء الأخضر لشارون للاستمرار في سلوكه إزاء الفلسطينيين، لأنه لا يوجد ما يثنيه عن تقديم قراءته الخاصة لخريطة الطريق التي هو صاحبها. وسوف يستمر في تجاهل نداءات أوروبا المتكررة بشأن الرجوع إلى خريطة الطريق بقراءة تتطابق مع روحها الأصلية.

سيتصرف بوش تجاه الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي وفق الاقتناعات التي تكونت لديه وهي مترتبة عن الفصل السابق من تجربته هو، ومما ترتب عن الفصل الأسبق مع كلينتون. ففي كتاب من دونيس روس عن مفاوضات كامب ديفيد مع كل من عرفات وباراك، ما يفيد بأن الإدارة الأميركية اقتنعت بأن خواطر أصحاب القرار الفلسطيني لم تنضج بعد للإقدام على ما سماه الأميركيون بالقرارات المؤلمة. ولهذا لا فائدة ترجى من محاولة واي بلانتيشن جديدة ولا كامب ديفيد جديدة.

وقد رأينا في كتاب روس «السلام المفقود» كيف أن كلينتون كان قد نزل بثقله للضغط من أجل أن يقع الحسم في اتجاه إنهاء المسألة الفلسطينية بكيفية دراماتيكية، وأن منتهى التصور الأميركي «للحل النهائي» هو إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح، بمبادلات ترابية ضرورية، وبصيغة خاصة بالقدس، تقضي بأن تكون للفلسطينيين السيادة على سطح الأرض وللإسرائيليين السيادة على ما تحت الأرض.

والخلاصة التي أنهى بها روس كتابه توضح كل شيء. قال الديبلوماسي الأميركي وهو يلخص درس كامب ديفيد لمخاطبيه الفلسطينيين: إدارة بوش ستتملص منكم. وسيأتيكم شارون، فتذهب عاصمتكم من القدس، ويسقط حق العودة لدولتكم.

وقبل أن نقرأ نحن هذا في كتاب روس الذي قدمته «الشرق الأوسط» لقرائها، كان بوش قد استوعب الخلاصة، وأجاب قائدا عربيا ناشده التدخل لإيقاف نحر الفلسطينيين، لا وقت لي لكي أحفل بذلك، إني ذاهب الآن لصيد السمك وقد أتعرض إلى الموضوع فيما بعد.

يكشف كتاب روس، ومثله مذكرات جيمس بيكر، وقبلهما كتاب كيسنجر، عن طريقة اتخاذ الأميركيين لقراراتهم، وكيفية خوضهم للتفاوض، بما يعني أن هناك منهجا مسطرا لا يترك شيئا للصدفة. ويظهر من خلال ذلك أن المنهج يكاد يكون تعبيرا عن مزاج.

ومن كتاب بيكر يحضرني الآن مشهد مقابلته في جنيف مع طارق عزيز، التي اختتمت بنداء كان هو الكلمة الأخيرة. قال وزير خارجية بوش الأب لوزير خارجية صدام: إن لدينا الوسائل الكفيلة بأن نحدد نحن طبيعة المعركة لا أنتم. وهذا ليس تهديدا بل اخطار لكم. وإذا اندلعت الحرب فسوف تواجهون قوة نيرانية متفوقة مهلكة. ولن يحدث وقف إطلاق النار بواسطة الأمم المتحدة أو فرصة لالتقاط الأنفاس لإجراء مفاوضات. وإذا انطلقت الحرب فسوف تكون بغرض الوصول إلي نتيجة سريعة وحاسمة.

فيم اختلف بوش الإبن عن أبيه ؟ إنه نفس المنهج ونفس المزاج. وهذا ما أعنيه حينما أذكر بأن هناك استمرارا، من بوش الأب إلى كلينتون ومن هذا إلى بوش الإبن. زاد عليهما هذا الأخير بأن جابه تجربة جديدة خاصة به، هي 11 سبتمبر التي جعلت منه رئيسا، وأدخلته تاريخ الولايات المتحدة كقائد متميز بقرارات اتخذها، ليس هذا مجال الحكم عليها، وإن كان لابد من استحضارها الآن، لنقول إن هناك تسلسلا منطقيا في التفكير وفي المنهاج والمزاج، عند القيادة الأميركية، وإن اختلف السياق.

سيخلف بوش نفسه، وستستمر نظرة أميركا إلى نفسها وإلى العالم. وأما كيف تنظر أميركا إلى العالم، فهو ما رأيناه من خلال تصريف بوش للأزمات التي تفرعت عن الحرب على الإرهاب، والحرب على العراق، وعن خريطة الطريق لفلسطين.

قد تحدث تصحيحات. وقد أقدم على بعضها، مثل إخضاع مشروعه للشرق الأوسط الكبير إلى مشاورات مع مجموعة الثماني، والحلفاء في الأطلسي. استمع وأقنع واقتنع، ولكنه ماض في مشروعه. ورأى أحد المعلقين أن حدة اعتداد واشنطن بمخططاتها قد يطرأ عليها تعديل، من قبيل أن الأخطاء التي صاحبت وأعقبت الحرب على العراق قد تتم مراجعتها. وربما يظهر ذلك من خلال السعي إلى جلب قدر معين من التزكية لمبادراتها المقبلة من قبل الشركاء الكبار، وأعني أوربا. ومن قبيل ذلك أن لا تغالي في الانفراد بالقرار، أو على الأقل ألا يكون انفرادها بالقرار فجا إلى درجة غير مقبولة.

وذهب الخيال بأحدهم إلى حد تصور أنه لن تكون هناك حرب عراق جديدة، ولكن لا شيء يمنع من ألا تنخفض درجة الضغط على سوريا وإيران وكوبا، ولكن لا شيء يمنع من أن يتواصل ذلك الضغط.

والدول، مثل الأفراد، لا تتحرر من الأحقاد التي تتكون من خلال تصريف الأزمات. فلن تنسى واشنطن لمدريد أنها اختارت الموقف الذي أدى بها، ليس فقط إلى الانسحاب من العراق، بل وإدلاء الرئيس ثاباتيرو في تونس بتصريح ضمنه متمنياته الطيبة نحو كيري. ولكن الدول مثل الأفراد تضطر إلى أن تداري أحيانا على مضض، خاصة حينما يأتي رجل مثل شرويدر إلى أميركا لكي يقول بشكل ما، إن التفاهم ممكن مع «اوروبا العتيقة» إذا احترمت بعض الشكليات. وقد كان ممكنا أن يقع في خضم التحفز لحرب العراق، تفاهم لولا أن صوت رامسفيلد علا على صوت باول، إلى حد ان أثنار نصح بأن تترك الكلمة لباول وان يصمت رامسفيلد قليلا. ويجب ألا ننسى أن فرنسا إنما لامت واشنطن أثناء التحضير للحرب على العراق، على إيقاع السرعة، بعد أن ناشدتها علانية في جلسات مجلس الأمن، أن تعطي فرصة لتأخير الحرب. إن كلمات دي فيليبان الأخيرة، وتصريحات شيراك بشأن صدام، لم تكن أقل حدة من بوش. ولو لم تستبد نشوة ونزوة الانفراد بالقرار بالرئيس الأميركي في يناير فبراير 2002، لكان واردا أن يصدر قراران آخران، أو ثلاثة لمجلس الأمن، ليتأتى إحكام عملية تجميع «تحالف» بدلا من التعجيل باجتماع الآزور الذي حددت فيه ساعة الصفر.

قد نرى نسخة منقحة لبوش ولكن بوش نفسه لم يطرأ عليه تغيير. لأن أميركا نفسها، سواء في ظل بوش أو كيري، تقودها نفس الحسابات، وتعمل بنفس المنهاج ويتحكم فيها نفس المزاج. سيكون مغاليا في التخيل من ظن لحظة أن كيري كان سيعمل شيئا آخر لو كان قد وصل إلى البيت الأبيض سوى أنه سيعدل بعض الجزئيات، كما قد يفعل الآن بوش، في سياق قيادة أميركا للعالم وهي شيء مكرس، وفي سياق تنفيذ جدول أعمال تتصدره مواصلة الحرب على الإرهاب، بتصور شمولي قوامه التصدي بالقوة، وتجفيف منابعه.