الانسحاب الفوري .. رسالة العراق العاجلة لأميركا

TT

تجاوز إنفاق الاحتلال الامريكي للعراق 150 مليار دولار، يضاف الى هذا المبلغ مليار آخر اسبوعيا. فضلا عن عدد القتلى الذي يتفاقم يومياً.

لقد بات الامريكان مستهدفين في العالم كله، مع نسبة عالية من الكراهية اتسعت في اكثر ارجاء المعمورة، وتركزت في النفوس عميقاً. المشروع الذي حاول المحافظون الجدد استهلاله في العراق اصبح مستحيلاً، في شكله الاول، وهو ان يكون العراق فاتحة التغيير في المنطقة عن طريق استخدام القوة، اما شكله الثاني القائم على خلق نموذج ديمقراطي في العراق يتمتع بمستوى من الرفاه يكون «مثالاً» للاقتداء والتبني من قبل شعوب المنطقة بالشكل الذي يقودها الى إحداث تغييرات مناظرة في بلدانها، فيبدو أنه استثمار طويل ومكلف ونتائجه مقلقة.

لو كانت هناك نصيحة فعالة تسدى لصانع القرار الامريكي في الادارة «الجديدة» قبل عقد مؤتمر شرم الشيخ في نهاية الشهر الحالي، فهي تحديداً: الاعلان للعراقيين ولدول الجوار والاقليم عن عزم الولايات المتحدة، تتبعها القوات الحليفة عن تصميمها على سحب قواتها من العراق، وان تشرع فوراً بذلك، وأن يوضع الجميع امام السيناريوهات المحتملة، التي ربما ستجبرهم على ان يكونوا جزءا من الحل بدلا من ان يظلوا عناصر في المشكلة.

فيما يخص المحتملات العراقية الداخلية، بعد ذلك فهي كالتالي: فبسبب واقع ان الاطراف اقوى من المركز، فإن هذا سيقود الى تعزز فيدرالية الشمال وربما يقود الى انفصاله، اذ ان الاكراد تركزت وترسخت سلطتهم فما الذي يبقيهم ملتصقين مع بلد يعيش احتراباً داخلياً ولا أفق لخلاصه؟ ثم اذا فشلت الولايات المتحدة في ترسيخ نفوذها على كل العراق أليس من المصلحة ان تبسطها على دولة في الشمال.

وأما في الجنوب، فإن نبرة الحديث عالية عن ايجاد فيدراليات، اذ ان هذا الجنوب بقي محروماً منذ عقود من أي خيرات او تطور وهو يطفو على موارد طبيعية هائلة ويشرئب بعنقه الى إمارات ودول الخليج ويطمح الى رفاهها، حيث يشابهها في ثرواته الطبيعية وإطلاله على الخليج، ويمتلك منفذ العراق الوحيد على البحر، ثم فيدرالية الأماكن المقدسة (عند الشيعة) حتى لو لم تتوفر لها اراضيها الزراعية الخصبة، وعاشت فقط على ما تدره عليها السياحة الدينية الهائلة الوافدة من بقاع العالم، فضلاً عن دورها العلمي المأمول، والموارد المالية التي تأتيها تجعلها بالقطع ذات المكانة الروحية والمادية الأغنى في المنطقة.

يبقى الوسط بموارده المالية المحدودة وإحباطه الآيديولوجي الناجم عن فقدان دوره الذي تشكل منذ تكون العراق الحديث، وصار هو الرافع للامال القومية ومعين التطلعات والنضالات الوحدوية نحو عالم عربي واحد، وإذ هو يكتفي ويختزل بجزء من وطن.

هذا عن تقسيم العراق، ولكن الذهنية التي تتصور بانه ببضع دبابات تستطيع ان تفرض خياراتها عبر اختطاف السلطة، ليست في ظني قادرة على الاشتغال، اذ ان الجميع يدرك انه سيخوض معركة حياة أو موت، لقد كانت نتيجة انتفاضة «اسبوعين» فقط، مئات المقابر الجماعية، وملايين الهاربين، وعقدا ونيف من العذاب، فما بالك بسنة ونصف في الحكم؟ وبعد ان نقلت كل القوى موجوداتها وكوادرها وآمالها الى الداخل العراقي فهل تستسلم ام تخوض المعركة «الصفرية» ؟!

أما مفاعيل هذا الانسحاب المقترح اقليمياً، فسيتم وضع دول الخليج أمام مخاوفها بأن تتمدد ايران بالفعل او النفوذ على اقاليم الجنوب وتصبح ملاصقة لأماكن الوفرة البترولية، والنقاط الديموغرافية التي تناظرها، وإذ كانت كلفة ابعاد هذا الخطر 8 سنوات من الحرب ومليون ضحية ومئات المليارات من الاموال، فلا يوجد احد الآن يدفع هذه الاثمان.

وبالنسبة لتركيا، فسف لا تكون هي بالقادرة على المقامرة باستقرار باتت تجني ثماره نمواً وقبولا دوليا وآمالا في الافق وأمنا واستقرارا في الداخل، ولا هي بالتي تستطيع ان تغمض عينيها عما يجري جنوبها والانتظار حتى تنعكس هذه الأحداث اضطرابات في داخلها، ولا ان تصم آذانها عن صرخات من يرتبطون معها برابط القومية.

اما دول الاقليم مجتمعة، فسيكون عليها ان تواجه الانسحاب بدون وجود قوة وطنية على الارض وما يمكن ان يفضي اليه من حروب اهلية تبدأ في العراق ولا تنتهي بأي دولة عربية مع ممكنات اقامة إمارات «جهاد» تشع بافكارها ونمطها على المنطقة.

هذا الانسحاب سيجعل الدول الاوروبية امام مسؤولياتها، التي حتى وإن بدت انها غير مرتاحة للهيمنة الامريكية على السياسة العالمية،الا انها في الوقت نفسه تعيش قلقا ورهبة، توقعا لهجمات ارهابية وعنف من التيارات الاصولية. هذا السيناريو يتركها تواجه مخاوفها، ناهيك من ان قلب العالم النابض بالنفط ربما سيتوقف عن النبض بسبب الفوضى، وعندئذ لن يكون هناك من يعالجه بالصدمة الكهربائية.

اذا لم يحدث أي من هذه المشاهد السيئة وتحققت المعجزة وتصالحت تكوينات العراق المجتمعية واحتكمت إلى الآليات الديمقراطية ولم تتغول أي اكثرية على اقلية، ولم تهدم الاقلية المعبد على من فيه، وباركت ذلك ودعمته دول الجوار، ولم تتدخل وقوفاً مع هذا التكوين او ذاك، وساعد المجتمع الدولي على ذالك عبر إسقاط الديون والتعويضات وحقن الاموال للاقتصاد العراقي، فعندئذ تكون المخاوف كلها سقطت، ومن جهة اخرى تكون امريكا قد تخلصت من عبء ثقيل ناءت وستنوء بحمله لسنين طويلة وسط شماتة العدو والصديق، وهي لن تعدم بعد ذلك الوسيلة لضمان مصالحها في العراق سواء من خلال النخب العراقية الصديقة، او عن طريق إدارة حكومته عن بعد، وتستطيع ايضاً ان تبقي لها قاعدة وبجانبها فضائية تشتمها ليل نهار وسيكون الجميع سعداء بهذا الحل.