نحن والغرب: من نابليون بونبارت إلى بوش الابن

TT

خرج الغرب الحديث على العالم غازيا بقوة سلطانه العسكري والمادي، في الوقت الذي كان مندفعا بزخم ثقافي لا يقل قوة وتوهجا عن سطوته المادية، فيما كان يرى في نفسه حاملا لمشعل الأنوار والتقدم لشعوب غارقة في ظلمات الجهل والتخلف، ومن ثم مخلصا لنفسه وللعالم من حوله بما يشبه دور المسيح المبشر والمخلص في الخطاب الكلامي المسيحي، وقد كان لايديولوجيا الأنوار القائمة على العقلنة، وتحررية الذاتية الانسانية، وطوبى التقدم ، دور هائل في ضخ بنيان الوعي والوجدان الغربيين بقوة الرسالة الكونية. يمكننا أن نستحضر هنا مشهد نابليون بونبارت وهو يجلجل واقفا على رأس جيوشه التي كانت تدك أسوار القاهرة في أول حملة على منطقة الشرق سنة 1798، يقول :«انتم اليوم أيها الجنود الأشاوس تقومون برسالة جليلة في قلب الشرق، فأنتم تجلبون أنوار الحضارة والتمدن للشرق الغارق في ظلمات الجهل والتخلف»، وقد كان بونبارت فعلا، بل وشعوب الغرب الأوروبي وقتها، ممتلئين يقينا بأنهم مؤتمنون على مشعل التقدم والتمدن في عالم غارق في عتمة الجهل، ومليء بالأشرار بما يشبه تصورات بوش اليوم.

ولكن منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين جرت مياه كثيرة في النهر الغربي الواسع، من ذلك ظهور حربين بين القوى الأوروبية الصاعدة، أصطلح على تسميتها تجاوزا بحربين كونيتين، وقد رافق ذلك تدمير منهجي غير مسبوق بين من يفترض فيهم حملة مشعل الأنوار والتمدن ذاته، إلى جانب ظهور النماذج الشمولية المخيفة، أمثال النازية والفاشية والشيوعية والقوميات المتطرفة، الأمر الذي وضع ادعاءات الأنوار والحداثة موضع اختبار تاريخي، فقد بينت هذه الأحداث التاريخية الجلل درجة القدرة التدميرية التي تختزنها الحداثة الغربية بصورة غير مسبوقة، كما بينت أن مسار التاريخ العالمي، فضلا عن التاريخ الغربي، الذي أريد له أن يكون مركز التاريخ الكوني، لا يسير ضرورة نحو مزيد من الامتلاء التصاعدي، بقدر ما يسير نحو المهالك والارتكاس التراجعي، ولا يسير ضرورة نحو تحرر الذاتية الانسانية توازيا مع تصاعد سلم المعرفة وكشف المجاهيل الكونية، على ما ذكر الآباء المؤسسون، بقدر ما يتجه نحو مزيد إحكام القيود والأغلال وإحلالها محل الأغلال القديمة.

أما على الجبهة الأخرى، أي جبهتنا نحن معشر العرب والمسلمين، فلم نر من مشروع الحداثة الغربي غير وجهه الكالح والمخيف، وربما يعود ذلك إلى كوننا لم نكتشف الغرب الحديث في جو من المطارحات الفكرية الهادئة، بل اكتشفناه تحت فوهات المدافع وطلقات الرشاش، ومن المفارقات الغريبة، أنه وفي الوقت الذي كانت فيه النخب العربية والإسلامية منهمكة في تأسيس مشروعية استنبات وجلب النموذج الحداثي الغربي، كان الناس بحسهم العفوي والبسيط، يرون في هذا الغرب الحديث مجرد قوة غازية لا خير فيها، ولعل السؤال الاستنكاري الذي طرحه أحد الشيوخ الجزائريين وهو يشاهد أرتال الجيوش الفرنسية تتحرك أمام ناظريه في إحدى قرى الجزائر، يقدم صورة بليغة ومعبرة عن هذا الوضع. ففي معرض تساؤله عن سبب قدوم هذه الجحافل الفرنسية إلى قريته النائية، قيل له بأنها قادمة لجلب التمدن والتقدم، فكان جوابه الاستنكاري : وما علاقة التمدن بالبارود ؟ (يقصد بذلك أسلحة الرشاش المتطورة التي لم يسبق له معرفتها فسماها بالبارود). لا شك أن هذا السؤال على عفويته وبساطته يكاد يكون ملخصا لعموم رؤية وأخيلة العرب والمسلمين عن الغرب الحديث، الذي تكثف في مشهد البارود على نحو ما ذكر هذا العجوز الجزائري. ولعل صورة الغازي والعدواني والتوسعي التي بدا فيها الغرب الحديث عندنا منذ حملة نابليون بونبارت على مصر، وإلى غابة حملة بوش الابن على العراق، ما زالت طافحة على الصورة التي تمثل بها الغرب الحديث لنفسه باعتباره حامل مشعل التنوير والتحرير.

وجماع القول هنا، إن موجة الاجتياح العسكري لمنطقة الشرق العربي والإسلامي ومنذ الحملة النابليونية وما تلاها من موجة الاجتياح الاستعماري، كانت بالنسبة لنا أولى الاختبارات العملية لادعاءات الحداثة الغربية في جلب التمدن والتقدم الموعودين. صحيح أن الغرب الحديث لا يمكن اختزاله في مشهد جيوش الاحتلال أو الأيديولوجيات الشمولية التي غمرت العصر الحديث، بل هو كذلك مدونة الحقوق المدنية وحريات الإنسان على نحو ما بشرت به أدبيات الأنواريين، وجلجلت بها كل من الثورتين الفرنسية والأمريكية وتضمنها لاحقا البيان العالمي لحقوق الإنسان، وهي قيم اكتسبت بعدا كونيا وتبنتها قطاعات واسعة من الشعوب والنخب الفكرية والسياسية في مختلف مناحي المعمورة الكونية، بما في ذلك في أرضنا العربية والإسلامية الواسعة، ولكن يبدو أن الغرب الأوروبي والأطلسي الحديث الذي كان الموطن الأصلي لولادة هذه القيم والمبشر بها، يبدو أول من يعمل على استنفاذها وتجييرها لصالح لعبة المصالح والهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية، فلم يبق سوى بعض المثقفين والهيئات الحقوقية والإنسانية حارسة لهذه القيم اللبرالية التحررية التي تؤمن بها، ومدافعة عن طابعها الكوني (أو تجسداتها العالمية) ولكنها تجد نفسها في نهاية المطاف، أشبه ما يكون بجيوب معزولة وسط غرب رسمي هوبزي (نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي هوبس) لا يؤمن إلا بإرادة القوة ومزيد التحكم والسيطرة.

ولا نعلم إن كان من سوء حظ العرب والمسلمين أو من حسنه، أن توالت عليهم موجات العدوانية الغربية واحدة تلو الأخرى، ما أن يدفعوا حلقة منها حتى تكر عليهم الأخرى، فإذا بموعودات التحرير التي دونها رجال الأنوار تستحيل في أرضهم إلى احتلال مقيت، وإذا بالديمقراطية الموعودة تستحيل إلى وطأة ثقيلة من الاستبدادية السياسية مدعومة ومحروسة أمريكيا وغربيا، ولعل الوجهين الأكثر كثافة اليوم عن حالة الهوة السحيقة التي تفصل دعاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير وتجسداتها العملية في منطقتنا العربية، هما مشروع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وما يلقاه من أشكال الدعم الخفي والمعلن من القوى الغربية وفي مقدمة ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، ثم أخيرا وليس آخرا الاحتلال الأمريكي للعراق للسيطرة على مقدراته والتحكم بمصائره باسم دعاوى التحرير، وهكذا في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات بعض المنظرين الغربيين والأمريكان بتأكيد انتصار القيم الثقافية الغربية، واكتساحها الضارب لكل مناحي المعمورة الكونية تزداد إرادة السيطرة والتحكم الغربيين شراسة على شراستها، وتزداد معها عوامل النقمة والشكوك، في جدية وصدقية القيم الثقافية والسياسية التي تبشر بها، بل أكثر من ذلك تبدو الجيوش الأمريكية وكأنها ترج الأرض من تحت أقدام النخب الليبرالية عندنا، وكأن أول مهماتها تفكيك مواطئ قدم النخب السياسية والفكرية، التي يفترض فيها أن تكون طلائع التبشير بالمشروع الغربي الأمريكي الجديد.

ولعل الاختبار الأكبر لمدى جدية وصلابة القيم السياسية الغربية، وفي مقدمة ذلك مقولات الديمقراطية وحقوق الإنسان، إنما يكون في الأجواء غير العادية، وفي مناخات الحروب والأزمات الكبرى، وقد شهد العالم كيف أدارت بعض الديمقراطيات الغربية آلتها الحربية ضد العراق، بأساليب الخداع ومخاتلة مواطنيها ومخادعة الرأي العام، وكيف تحولت أم «الديمقراطيات الليبرالية» إلى آلة ضخمة من الرقابة الأمنية والأكاذيب المفضوحة التي تسوغ شن الحرب والعدوان، ففي الوقت الذي كانت الآلة الإعلامية والسياسية الأمريكية تغلف أهدافها التوسعية والاستحواذية في العراق بجلب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كان البوليس الأمريكي وعلى بضع أمتار من البيت الأبيض يعتقل المتظاهرين المناهضين للحرب ويغل أياديهم في الساحات العامة، وعلى مرأى ومسمع من الكاميرات العالمية، أي أن هذا النموذج السياسي والثقافي الذي يراد تصديره إلى العالم، والذي تشن الحروب من أجله، لم يستطع أن يصمد حتى في موطنه الأصلي، فكيف له أن يصمد في العراق المحتل أو في ما اصطلح الأمريكان على تسميته حديثا بالشرق الأوسط الكبير.

* باحث تونسي في العلاقات الدولية