السيستاني والانتخابات : مأزق التعاطي والتبريرات

TT

إصرار المرجع الأعلى علي السيستاني على التعاطي بحرارة مع ملف الانتخابات العراقية واهتمامه المتتابع به، يرجع إلى اقتناعه بقوة، بأن العراقيين هم من يفرزون ممثليهم الحقيقين من خلال انتخابات حرة ونزيهة تمثلهم جميعا، بقومياتهم وطوائفهم وإثنياتهم المتعددة، وأن تجارب التعيين والتوافقات لم تنجح ولم تساهم في حل مسألة الشرعية والطعن فيها، وولدت حالات من النقمة كان يمكن تفاديها، ولم ترض أي طرف من الأطراف، لذلك فإن الانتخابات هي أفضل الحلول وأمثلها لحل الجدل القائم حول نسب التمثيل واحجامه، في بلد متنوع ومتعدد مثل العراق.

وهناك أيضاً تشديد على أن الانتخابات يجب أن تشمل جميع العراقيين للوصول إلى استقرار حقيقي، وعدم حرمان أي مجموعة أو منطقة، واعطاء ذرائع وادعاءات بالتهميش والاستثناء.

إن مقياس نجاح أي انتخابات هو نزاهة تلك الانتخابات ونسبة المشاركين فيها. وتحاول جميع الدول التي تمارس الانتخاب تشجيع مواطنيها على الذهاب إلى صناديق الاقتراع حيث مقياس النجاح فيها، هو ارتفاع نسبة المشاركين والمقترعين. وهذا ما دفع السيستاني لأن يستخدم موقعه ومكانته الروحية لتشويق العراقيين وتشجيعهم على الاقتراع، مما حدا بالبعض أن يعتبره تكليفاً شرعياً قد يرقى لمستوى الفروض الملزمة. وبدون الدخول في جدل أحقية هذا التكليف، فإن هذا التشجيع يٌعتبر مساهمة إيجابية في بناء الوطن وتوظيفا لمفردات الدين بصورة بناءة بدل توظيفها لممارسة الالغاء والتكفير والهدم. وهذا ما دفع الكثيرين لأن يثيروا السؤال حول ما اذا كان السيستاني سيلقي بثقله ووزنه لدعم لائحة معينة؟

يبدو أن الرجل يتحرك بنبض الشارع في القضايا الوطنية والقضايا ذات الشأن العام، من دون القضايا الدينية التي ينطلق فيها من منطلقات شرعية صرفة ولها موازينها الخاصة.

المتابع للداخل العراقي يدرك أن العراقيين يتوزعون على تيارات واسعة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الديني المتشدد إلى العلماني المتطرف في علمانيته، لكنهم جميعاً وبلا شك، يكنون تقديراً عالياً للسيستاني، الذي يدرك وضع العراق وتعدديته، ويتفهم الواقع وظروفه الموضوعية، مما لا يسمح بالطرح الايديولوجي الخاص. لذلك تبنى منهجاً منفتحاً على جميع العراقيين حتى صرح بأنه لا مانع لديه من أي يكون رئيس الدولة مسيحياً عندما تتوافر فيه شروط العدالة، وهذا موقف يسجل للرجل الذي يدفع باتجاه مجتمع مدني تحكمه سيادة قانون متوافق عليه.

إن إقرار نظام اللوائح النسبية في الانتخابات العراقية يستدعي وجود قوائم متوافقة ومتحالفة فيما بينها، لأن تأخذ حقها من الأصوات المقررة. وحيث أن هناك تخوفا من وجود مساع لإفشال الانتخابات، من قبل جهات معينة، لذا لا بد أن تتقدم لوائح قوية لها قبول واحترام عند العراقيين، لكي يشعر معها الناخبون بجدوى التصويت لشخصيات مرموقة ومقبولة، كرد عملي على تلك المساعي.

لقد بدأت بوادر تجميع الأطياف المختلفة في الظهور عبر تشكيلات سياسية. لذلك يسود بين العراقيين شعور عام بضرورة أن يكون هناك توافق لإفراز لائحة منظمة وطنية وقوية، وليست لوائح متناثرة وصغيرة تشتت انتباه وأصوات الناخبين، ويجري التفاعل معها شعبيا بصورة ضعيفة.

هناك أمر ثان مهم، وهو أن وجود لائحة متحالفة وطنيا وقوية، يقطع الطريق على استخدام المال لشراء الأصوات وتضليل الناس البسطاء واستغلال وضعهم المتردي، من قبل مفسدين لا يملكون أي مقومات لتمثيل العراقيين، غير أموال مشبوهة لديهم يريدون استخدامها للتسلق والصعود، من اجل اعادة عهود الفساد والظلم والتسلط.

الأمر الثالث، هو أن الإدارة الأميركية رصدت مبالغ تفوق ميزانية المفوضية المستقلة للانتخابات لتوجيه الانتخابات وجهة تريدها هي لفرض وجوه معينة على العراقيين. وهذا التوجه خطير يمكن أن ينعكس سلباً على الجميع، لأن العراقيين لديهم حساسية عالية جدا حاليا، من وجوه مفروضة عليهم. وبالتالي فإن وجود لائحة موحدة وطنية تجمع كل العراقيين، وبضمنهم التيارات الأساسية للشيعة والذين يشكلون الأغلبية، يقلل من احتمالات التزوير والتلاعب، وإن حدث فسيكون واضحاً ويمكن الإشارة إليه.

مع كل ما سبق ومع التعامل المحايد في الشأن العراقي الذي تحلى به السيستاني، فإنه من المستبعد أن يتبنى الرجل بقوة أي لائحة، لأن الدخول في التفاصيل ليس معروفاً عن الرجل الذي يدعو وبصورة واضحة لأن يكون العراق بلداً تعددياً متنوعاً لا تستأثر مجموعة محددة به، حتى وإن كانت الأغلبية، لأن ذلك سيسبب عدم استقرار، ويؤدي الى ظهور مشاكل عانى منها العراق لعقود طويلة.

الشيء المثير، والملفت هو أن هذا الجهد قد أخذ تفسيرات وتأويلات شطحت بعيدا عن حقيقة الأمر، وتم إصدار أحكام مسبقة ومتسرعة تعودنا على سماعها.

هناك شعور عام بأن هناك جهات لا تريد للانتخابات أن تتم، وتبررها تحت عناوين مختلفة وأسباب كثيرة، جزء منها معلن والكثير منها غير معلن، يأتي في مقدمتها عدم حصول هذه الجهات من خلال الانتخابات على وضع يمكن أن تحصل عليه بالمحاصصة، أو لأن حجمها أصغر مما تدعي، وبالتالي ستسعى جاهدة لإفشال الانتخابات بكل الطرق، وعلى من يعنيهم الأمر أن يدركوا أن هذه الانتخابات هي فرصة لبداية عملية سياسية لبناء بلد تتقاذفه أمواج هائلة من الداخل والخارج، وعدا ذلك سيكون الطوفان والغرق.

*خبير في المرجعية الشيعية

[email protected]