لنكن بالعلم أبطال المرحلة القادمة..حتى في وجود إسرائيل

TT

حين نتحدث عن «التفكير العلمي» واحتضانه، فإن انطلاقته قبل أن تبدأ من مقاعد الدراسة لتستكمل في الجامعات ومراكز الأبحاث، إنما تحتاج إلى مجتمع يؤمن بعقيدته وتفعيلها من خلال مؤسساته الحكومية والخاصة على السواء، وفي هذا الإطار تتنازعني رغبة في عقد مقارنة سريعة بين دولة مغروسة في قلب العالم العربي، وواقع حالنا ـ نحن العرب ـ على اعتبار وجودنا في نفس المحيط أو قل حواليه، فالمسألة لا ترتبط بالمكان والإمكانات بقدر تعلقها بتخطيط ملتزم، وقرارات جريئة تطمح إلى علمية الرؤى وحرية الابتكار. عادة ما ننظر إلى إسرائيل من خلال قوتها العسكرية، ودعم ترسانتها من قبل الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، إلاّ أن باقي فصول القصة لا تنفصل عن البعد المدني وغزارة إنتاجه العلمي المتفوق، فلغة الأرقام تقول إن إسرائيل قد توصلت إلى نشر مائتين وستة عشر ألف بحث علمي موثق عام 1995، في مقابل 6625 بحثا لكل العلماء العرب في العام نفسه، كما تؤكد ذات المصادر بيع ما قيمته 12 مليون كتاب عام 1997، بتقرير ثلاثة كتب للفرد الواحد، غير صادرات المنتجات الإلكترونية التي زادت من مليار دولار أمريكي عام 1986 إلى قرابة ستة مليارات دولار أمريكي عام 1999، حتى أن صناعة الألماس الإسرائيلية قد تجاوزت في قيمتها الأربعة مليارات دولار عام 1995، أي ما يشكل 80% تقريباً من الإنتاج العالمي للألماس.

إن صناعة القرار غالباً ما تعوِّل في سيرها على نتائج مراكز البحوث والدراسات، فإذا انتفى وجود هذه المراكز فمن أين ستستقى التصورات، التي تبنى عليها الاستراتيجيات! ومن أين للإنتاج الوطني التنويع والتغيير للأفضل التنافسي! فالغرب مثلاً تعود تخصيص جزء ضخم من ميزانية شركاته ومصانعه لإنشاء مراكز بحثية ومعامل علمية تأخذ على عاتقها تطور الحقل الذي يتحرك فيه القطاع المنتمية إليه، للحصول على إنتاج عالي التسويق يعود بالأموال التي صُرفت من أجله، ويكون سبباً في الارتفاع بالسقف الاقتصادي القومي ككل. وهنا يلح السؤال العربي: كيف كان لدولنا المصدِّرة للبترول أن تبيع سعر البرميل الخام الواحد بـ 25 دولارا، ثم تستورده مصنَّعاً خارجياً بـ500 دولار! فإذا نحيّنا أمر الخام الأسود، والتفتنا إلى مصدر آخر للطاقة فلِمَ لمْ يُخلق لدينا ذلك الاهتمام الجاد بأبحاث الطاقة الشمسية ومصدرها الإشعاعي لا يغرب عن سمائنا، فحين يفتقر الغرب إلى هذه الشمس بشكل يؤهله للاستفادة من طاقتها، فهي فرصتنا للاستثمار العلمي لهذه المكرمة الربانية، عوضاً عن الاستفراد الإسرائيلي بنعمة وصل في تميّز استخداماتها إلى توظيف مليون وحدة طاقة شمسية، بتوفير بلغ مليارا وثلاثة أرباع المليار دولار لكل عام!

وهنا لا ينبغي إغفال المياه ومصادرها، فعندما تثبت الإحصاءات أن 52% من مجموع معامل تحلية مياه البحر في العالم يتزاحم وجودها في المنطقة العربية وحدها، يجب التحول بتمويلنا وعلمنا إلى ما فيه تحسين لعمليات التحلية هذه بأفضل الطرق وأوفرها ميزانية وأكثرها أماناً وحماية، وخاصة مع استمرار الاحتياج الكلي للمياه المقطرة، وهو ما يحق لنا تقريره، فليس في المسألة نقص في العقول العربية بدليل إبداعها في المهاجر، ولا هي قلة في مواردنا حتى وإن كانت مهملة أو مبعثرة، أما وقد علمنا واعترفنا بهجرة علمائنا فما المانع من تواصل التعامل الذكي مع كفاءاتهم، ونسج العلاقات مع المعاهد والمراكز، وتبادل الزيارات مع العلماء العالميين المرشحين من قبلهم للإفادة من هذا العلم المتجانس (عربياً وأجنبياً)، دون أن نسمح للأساليب البيروقراطية أو بعض المشاعر السلبية التي قد يشعر بها البعض تجاه محاولات أولئك الوطنيين في الخارج أن تتدخل، وبدلاً من تقريبهم وجذبهم إلى أوطانهم ثانية نضطلع بإهداء الدول الحاضنة قوة إضافية وبقدرات أبنائنا.

فنحن إذ نقرأ عن براءات اختراع بلد واحد مثل كوريا أنها تساوي 44% من مجموع ما تنتجه الدول العربية الـ22، وحين نستوعب سياسة إسرائيل القاضية باعتماد «البحث والتطوير» باباً أساسياً في ميزانيتها الذي أعتبر من بين أعلى النسب في العالم بمعدل 2.4% من الناتج القومي الإجمالي، بينما نراه لا يكمل الواحد الصحيح في أي بلد عربي، فمن المستبعد ألاّ يخزّنا الألم مع هكذا تقارير، وإن كان انفعال إيجابي إذا توِّج بالعمل والحركة، المسبوقين بالتمويل والحرية كمناخ مشروط للعثور على المفيد الجديد.

لقد آن أوان مراكز الأبحاث والدراسات أن تأخذ بعداً عملياً تقوده الدولة عبر تخصيص اعتمادات مالية سخية، وتسهيلات قروض وإعانات خاصة لإنشاء ما يلزم ويواكب، فزماننا لم يعد يسمح بالإحباط وترديد كلمات اليأس لواقع لن يتغير، وإنما علينا أن نبدأ بتنظيم العمليات لمحو أميتنا العلمية، فنفتتح المدارس الثانوية لذوي الميول البحثية والتفوق العلمي، ونتوسع في تأسيس أقسام التقنيات في الجامعات والمعاهد، ونربط تعليمنا بسوق العمل المحلي والعالمي، هذا إذا أردنا أن نكون أبطال ما قد يأتي.