السلام الفعلي يحتاج إلى تدخل البيت الأبيض

TT

نريد ان نصدق ان اطلاق الرصاص، الذي وقع في غزة مساء الاحد الماضي، كان حادثا فقط ولم يستهدف محمود عباس، لكن هذا الحادث الذي ادى الى سقوط قتيلين من حراس عباس واصابة اربعة بجراح يشير الى وعورة الطريق التي سوف تسير فوقها القيادة الفلسطينية الجديدة وبالتالي صعوبة التوصل الى تسوية مع اسرائيل.

بعد سنوات من استحالة إحداث تقدم على طريق السلام، حرك رحيل ياسر عرفات السياسة المعقدة في الشرق الاوسط، فهناك قيادة فلسطينية جديدة ستبرز، ويخطط ارييل شارون للانسحاب من قطاع غزة وبضع مستوطنات شمال الضفة الغربية، ويوفر هذا امام ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش فرصا ومخاطر جديدة. ولأن رحيل عرفات كرس نهاية فترة زمنية معينة، فان الفرصة المتوفرة هي في ان تجعل واشنطن تحقيق السلام في الشرق الاوسط من ابرز اولوياتها، ولأن احتمال التغيير وارد، فاذا قررت الادارة الاميركية الاكتفاء بمهمة المتفرج الذي يلقي «تعليقات على الفيلم» ولا تستغل هذه الفرصة، سيزداد الوضع تعقيدا، في وقت ان وضع العراق.. مخيف!

الرؤساء الاميركيون السابقون اثارهم التفاوض مع عرفات، وكان الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون التقى الزعيم الفلسطيني 28 مرة، ولم يستطع التوصل معه الى تسوية، لهذا قرر الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش ابعاد عرفات عن معادلة عملية السلام، ووصفه بالعقبة امام السلام ورفض لقاءه.

لكن، بعد لحظات من مأتم عرفات في رام الله، عبر الرئيس بوش في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير (الجمعة الماضي) عن رغبة جديدة لحل الصراع، وقال: «انني على استعداد للعمل مع القيادة الفلسطينية الجديدة اذا التزمت بمحاربة الارهاب واعتمدت الديمقراطية والاصلاح». مثل هذه العبارات تعهد بها بوش في شباط (فبراير) من العام 2003 عشية الحرب على العراق عندما قال «سنعمل لايجاد السلام في الشرق الاوسط».

لم يتوقف المراقبون السياسيون كثيرا امام وعود الرئيس الاميركي المتجددة، فالمسألة الاساسية تتعلق بحقيقة موقف البيت الابيض وعما اذا كان حل القضية الفلسطينية من اولويات السياسة الاميركية، بما فيها تدخل الرئيس مباشرة. فاذا كان هذا الموقف غير متوفر، فان كل التحركات الديبلوماسية التي سنشهدها، ستفشل.

هناك عدة مواقف يمكن ان تتخذها الولايات المتحدة لاعادة بناء الثقة واظهار انها جادة في ايجاد السلام في الشرق الاوسط، ابرزها تعيين مبعوث رئاسي اميركي على مستوى عال للتحرك بين الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني، والحسم مع اسرائيل لإيقاف توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، واتخاذ خطوات لجعل الفلسطينيين يخوضون انتخابات نزيهة وآمنة.

التوقعات الآن ان تبذل الولايات المتحدة واوروبا معها اقصى الجهود لتسهيل اجراء الانتخابات الفلسطينية، ويدور حديث عن استعداد الرئيس بوش لدفع مبلغ 75 مليون دولار ـ من دون موافقة الكونغرس ـ لإعادة تجهيز الشرطة الفلسطينية وترتيب اوضاعها ونشرها على نقاط تفتيش محل القوات الاسرائيلية. بعض الفلسطينيين يميلون الى «تصديق» رغبة بوش في دعم اجراء الانتخابات الفلسطينية، بسبب تركيزه على نشر الديمقراطية وانه سيضغط على الاسرائيليين كي لا يعرقلوا هذه العملية، بما فيها مشاركة ابناء القدس الشرقية في هذه الانتخابات، خصوصا انهم شاركوا في انتخابات عام 1996. والمعروف ان من عادات اسرائيل، تقديم «التنازلات الشكلية» تحت الضغوط الاميركية تدريجيا، كي توحي لواشنطن انها «اقدمت» على الخطوة الكبيرة.

لكن ماذا بالنسبة الى الفلسطينيين. هم يقولون ان محمود عباس لم يتم ترشيحه رسميا، ويوم الاحد المقبل سيعقدون دورة لاجتماعات اللجنة المركزية، وسيبحثون موضوع الانتخابات على اساس الموقف الفلسطيني من القضايا السياسية المطروحة الآن، ومن هذه القضايا: خطة شارون بفك الارتباط والدولة الفلسطينية المؤقتة ـ زمن عرفات كان الاتفاق برفض الدولة المؤقتة، واذا كان شارون رافضا للتنسيق فالفلسطينيون لن يتدخلوا، وسيبحثون التوجه الى المستقبل، وعلى ضوء الموقف من هذه القضايا ستتحدد تسمية المرشح لرئاسة السلطة الفلسطينية ويجب ان يكون عضوا في اللجنة المركزية، فهي التي ستقرر ترشيحه.

هناك مجموعة فلسطينية تطرح اسم مروان برغوثي (ليس من اعضاء اللجنة المركزية)، وذلك من اجل الافراج عنه، وكان شارون في جلسة الحكومة الاسرائيلية قال انه لا يفرج «عمن يداه ملطختان بالدماء». ويتساءل عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، هاني الحسن: لنفترض اننا تبنينا ترشيحه وجرى انتخابه وهو في السجن، فكيف سيدبر الامور؟

بعض الفلسطينيين لا اعتراض لديهم على مروان برغوثي، لكن السؤال الذي يطرحونه هو: اننا لا نعرف ماذا يطرح، ما سمعناه مرة، حتى قبل سجنه، الا في حالة صراخ، «انه يصرخ باستمرار ومنفعل باستمرار». والبعض يقول ان الجيل القديم من القيادة الفلسطينية لن يوافق على توقيع أي اتفاقية سلام مع اسرائيل، بينما الجيل الشاب «الراديكالي» الذي ولد ونما في ظل الاحتلال، ومنهم مروان برغوثي، قادر على توقيع مثل هذه الاتفاقية. وقال وزير الداخلية الاسرائيلي افراهام بوراز الاسبوع الماضي: «انه كجزء من اتفاق مستقبلي مؤقت أو دائم، فإن اطلاق سراح السجناء ومنهم برغوثي هو امر لا يمكن تجنبه».

عدد آخر من الفلسطينيين، غير المنضوين تحت لواء فتح، يرغبون في ترشيح انفسهم، فالصناعيون الفلسطينيون ينوون ترشيح منيب المصري عنهم، ويلتقي الجميع على ان المرحلة المقبلة صعبة، وان الذي سيتسلم قيادة السلطة قد يدفع ثمناً حياته السياسية. ويتساءل هاني الحسن: هل ان لدى شارون حلا للقضية الفلسطينية والعلاقة مع الفلسطينيين، وان مشكلته كانت انه لا يريد عرفات ؟ هذا ليس الوضع، فان لدى شارون تصورا يريد فرضه على عرفات وعلى غيره. ويضيف الحسن: «ان شارون يرفض حلا لقضية اللاجئين، والعودة الى حدود 1967، اما القدس فانه يقبل اعادة الاحياء العربية منها فقط وليس القدس الشرقية ـ المدينة، إذ بعدما قسّمها وادخل يهودا على القدس، صارت الاحياء الفلسطينية الاقل عددا، اربعة مقابل تسعة احياء يهودية في القدس العربية».

بالنسبة الى الاسرائيليين، فان شارون يريد الايحاء بانه سيعطي محمود عباس كل الفرص، وهو سيسمح لفلسطينيي القدس بالمشاركة في الانتخابات رغم معارضة حلفائه في الحكومة على اساس ان اسرائيل ضمت القدس الشرقية عام 1968. وقد طلب شارون من وزارة الدفاع وضع خطة طوارئ تتعلق بتنسيق الانسحاب من غزة، مع الفلسطينيين. كما ان القوات الاسرائيلية بدأت في وضع مسودات لإصلاح الاجهزة الامنية الفلسطينية واتخاذ خطوات لإنهاء الانتفاضة، ويجري مسؤولون في وزارة الداخلية الفلسطينية اتصالات سريعة ومستمرة مع الحكومة الاسرائيلية للتوصل الى تثبيت وقف لاطلاق النار. وينوي شارون مساعدة محمود عباس في بناء سلطته بالمبادرة بإطلاق سراح بعض السجناء الفلسطينيين، ولوحظ ان القوات الاسرائيلية انسحبت يوم الاثنين الماضي من جنين. من ناحيتهم يرى الاوروبيون ان دور واشنطن الاساسي يجب ان يكون في مساعدة السلطة الفلسطينية الجديدة على تثبيت شرعيتها، وانهم والاميركيين سيساعدون هذه السلطة في اعتماد النظام الديمقراطي.

واذا كان شارون ارتاح لسياسة بوش الجديدة المكررة، وهي الطلب من الفلسطينيين التخلي عن العنف، فان يسار الوسط في اسرائيل يشعر بضرورة ان تضغط واشنطن على الطرفين. ووجه الصحافي الاسرائيلي ماتي غولان رسالة مفتوحة الى الرئيس الاميركي يدعوه فيها الى فرض التسوية، وان لا يقف وراء شارون. وقال: يجب على الرئيس بوش وضع اتفاق السلام على الطاولة وابلاغ الطرفين بالتوقيع، ومن يرفض ويحاول المناقشة يتم ابلاغه «انه لن يتلقى بعد اليوم فلسا واحدا، لا من الاميركيين ولا من الاوروبيين (...) ستحدث همهمة في البداية، لكن لاحقا سيشكرك كل طرف».

قد يكون الشارع العربي معاديا للرئيس الاميركي. لكن يعرف المسؤولون الفلسطينيون انهم اذا ما ارادوا ايجاد حل لقضيتهم فان عنوانهم الرئيسي هو البيت الابيض. المطلعون على الامور يعرفون ان الفلسطينيين يريدون تدخلا اميركيا لان لا شيء يمكن ان يتغير على ارض الواقع من دون هذا التدخل. ويتخوف مسؤولون اسرائيليون من احتمال موافقة القيادة الفلسطينية المقبلة، بعد توحيد الاجهزة الامنية، على تطبيق شروط بوش او البنود الواردة في خريطة الطريق، لان هذا سيفتح المجال امام ازمة اميركية ـ اسرائيلية.