عرفات وخرافة الفرص الضائعة

TT

كثيرون هم الذين عبروا بعد رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عن حسرتهم على الفرص التي أضاعها في حياته لتحقيق الحلم الفلسطيني في الدولة المستقلة ولو بثمن بعض التنازلات الواقعية المطلوبة.

تلك نغمة ترددت على نطاق واسع في الإعلام العربي والدولي وفي أعمدة الصحف وتحليلات الساسة، وتستند لبعض المؤشرات والمعطيات من بينها على الخصوص:

ـ رفض القيادة الفلسطينية اتفاقية كامب دفيد الأولى، التي عرضت على الفلسطينيين حكما ذاتياً موسعاً، كان من الممكن ان يفضي الى إعلان الدولة المستقلة.

ـ تلكؤ الرئيس عرفات خلال مفاوضات كامب دفيد الثانية التي تمت برعاية الرئيس الأميركي السابق كلينتون، وتعنته في قبول مبادرة الحل المطروحة التي كانت من المؤمل ان تفضي الى تحقيق 95% من مطالب الشعب الفلسطيني بما فيها السيادة على الجزء العربي من القدس، وهو الحل الذي أصبح بعيدا بعد وصول شارون وبوش للسلطة في إسرائيل والولايات المتحدة.

ـ سوء توقيت إعلان الانتفاضة الثانية وخطورة عسكرتها، مما عزل القيادة الفلسطينية وأوقف المسار السياسي للتسوية، بدل القراءة الموضوعية للحظة الجديدة، وإدراك التحولات الجوهرية التي عرفتها الاستراتيجية الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

ومن دون الخوض بالتفصيل في هذه المعطيات التي تقدم دليلا على قصور رؤية وأداء القيادة الفلسطينية في عهد الرئيس الراحل عرفات، نبادر بالإشارة الى أن التقويم الحقيقي المعمق لتجربة الحركة الوطنية الفلسطينية يستدعي تحديد طبيعة واطار الصراع الذي خاضته ولا تزال تخوضه ضد معادلة الاستيطان والاحتلال.

ما يميز الصراع العربي ـ الصهيوني هو كونه في آن واحد صراع شرعيتين، وصراع ايديولوجيتين، وصراع كيانين ولا سبيل لإقصاء أي من هذه الحقائق الثلاث في التحليل الموضوعي الدقيق للرهان الشرق أوسطي.

أما صراع الشرعيتين فيتمثل في صدام شرعية ثيوقراطية أسطورية تتلبس اللبوس القومي وتتغذى من تركة الهولوكوست، وشرعية وطنية بديهية تستند لحقائق التاريخ والقانون ومعطيات الواقع الحي. ولئن كانت الشرعية الأولى تبدو مموهة زائفة، الا انها اكتست سمة الاعتراف الدولي منذ اعلان الدولة العبرية عام 1948، ونجاحها في بناء كيان سياسي استوعب هجرات متتالية واسعة غدت تشكل نسيجا قوميا له بعض الانسجام. أما الشرعية الفلسطينية فإن كانت تبدو بديهية الا انها تعرضت لأصناف شتى من الرفض والانكار، سواء باسم الحق القومي المطلق، أو من منطلق التوازنات الدولية القائمة.

بهذا المعنى يمكن التأكيد ان الانجاز الأكبر للحركة الوطنية الفلسطينية هو افتكاك الشرعية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي، بل وعلى الصعيد الاسرائيلي في مقابل التصور التوراتي لاسرائيل الكبرى. ولم يكن هذا المكسب سهلا بالنسبة لحركة نشأت في الشتات وحكم عليها بالتعامل مع أوضاع اقليمية ودولية شديدة التعقيد والخطورة.

أما صراع الايديولوجيتين، فهو الصراع الأصلي القائم بين الرؤية الصهيونية التي شكلت الاطار الايديولوجي لتحقيق الحلم اليهودي التوراتي بمنطق قومي سياسي حديث، بحسب النماذج القومية الاوروبية التي برزت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والدينامية القومية العربية التي صاغت اطار العمل السياسي العربي منذ منتصف الاربعينات، وتعززت في عهد المد الناصري الذي ارتبط بالمحطات الرئيسية للصراع العربي ـ الاسرائيلي.

فغني عن البيان ان الحركة الوطنية الفلسطينية، على الرغم من اخطائها المعروفة، وعلى الرغم من أخطاء العرب في حقها، استطاعت ان تكرس مركزية الحلم الفلسطيني في الوعي السياسي العربي، وفي اجندة العمل العربي المشترك، بل نجحت في أن تضعه في أسس الشرعية السياسية لأنظمة الحكم. ولئن كانت الصياغات الأيديولوجية المختلفة للرؤية القومية العربية قد انتكست، بل وفشلت وأخفقت، الا ان الموضوع الفلسطيني لا يزال يمثل من دون شك، آخر العناصر الفاعلة في هذه الرؤية. وليس من الصحيح ان الايديولوجيا العروبية هي وحدها التي انهارت، فالايديولوجيا الصهيونية نفسها تعاني حاليا من انتكاسة عميقة، في مستوى بنائها الرمزي وطاقتها التعبوية وتأثيرها في مجرى الواقع الاسرائيلي. أما صراع الكيانين، فهو القائم بين دولة قائمة وطدت وجودها السياسي وتحظى برعاية ودعم القوى الدولية الكبرى، وكيان وليد لا يزال مشروع دولة لم يحسم بعد شكلها النهائي ولا حدودها ولا تركيبتها السكانية. بيد ان الاعتراف بحق الدولة الفلسطينية، الذي جاء متأخرا من الولايات المتحدة واسرائيل، يمثل في ذاته مكسبا جوهريا للشعب الفلسطيني، على الرغم من ضحالة العروض المقدمة حاليا كصيغة للحل النهائي في الأراضي المحتلة عام 1967 . وليس من الصحيح ان اتفاقيتي كامب دفيد الأولى والثانية كانتا فرصتين أضاعهما عرفات بتشدده وعدم مرونته، فما لا يدركه الكثيرون ان سقف العرضين الأميركيين المقدمين اوانها، لم يصلا الى الاستجابة للمطلبين اللذين يشكلان نقطة الارتكاز الثابتة للقضية الوطنية الفلسطينية وهما: المرتكز الرمزي المتمثل في القدس والمرتكز الشرعي الاخلاقي المتمثل في حق عودة اللاجئين والمهجرين، الذي هو المبدأ المعاكس لحق عودة اليهود لأرض الميعاد الذي قامت عليه شرعية الدولة الاسرائيلية.

ولعل ما سيذكره التاريخ بالفعل عن عرفات هو انه استطاع، على الرغم من اخطائه وهفواته، وعلى الرغم من مسار عاصف فرض عليه الابحار فيه من دون ان تكون له قدرة التحكم فيه، ان يحافظ على ثوابت قضية تحول الى رمز لها، والشعوب تحتاج الى الرموز ولو كانت عاجزة، حاجتها للساسة الناجحين.