ثرثرة فوق دجلة

TT

ما بين الحملة العسكرية الغربية على العراق وحملات التبشير الأميركية قرن ونيف، فما يبدأ عقائديا ينتهي عسكريا، ونحن لسنا أفضل من غيرنا، فقد ذهب الغرب الى أفريقيا ومجموعة لا يستهان بها من دول آسيا، والانجيل بيد فيما البندقية باليد الأخرى، والنتيجة أن من لا يقتنع يرضخ، ومن لا يقتنع ولا يرضخ أمامه نهر دجلة والفرات معا يشرب حتى يرتوي، أو تتلطف به الأقدار فيغيبه الماء كي لا يسمع ولا يرى.

هل بدأنا القصة من آخرها؟.. ربما.. ومنه لله خالد البسام فكتابه الجديد «ثرثرة فوق دجلة» يفتح جروحا وينكأ قروحا، ولأجله بالذات اخترعت عبارة ـ الحديث ذو شجون ـ وهل هناك أكثر شجنا من أن تفتح في هذه الأيام سيرة حملات التبشير الأميركية في العراق.

الكتاب تحديدا، وكما ينص عنوانه، حكايات عن التبشير المسيحي في العراق ما بين 1900 و1935 ومع أن المبشرين كان بينهم مجموعة لا يستهان بها من البريطانيين والفرنسيين وجنسيات أخرى، الا ان المؤلف قصر كتابه على الحملات التبشيرية الأميركية التي انطلقت من ولاية نيوجيرسي الأميركية، بعد أن تم عام 1889 في نيوبرونزيك تشكيل ما يسمى بالإرسالية العربية الأميركية.

هذه الإرسالية أرادت، كما ورد في أهدافها، أن تستعيد عقائديا جزيرة العرب، ومن أجل ذلك الهدف جندت المبشرين والرهبان والأطباء، فالتبشير من خلال المستوصفات المتنقلة كان أنجع الأساليب وأسرعها وأكثرها أمنا، خصوصا، وأننا نحكي عن فترة زمنية كان فيها العراق تحت النير العثماني ومع الأتراك أيام السلاطين لا يجوز العبث بعقيدة السلطنة.

وإضافة الى كل ما سبق من عناصر أسست الإرسالية مجلة أطلقت عليها اسم «الجزيرة المنسية» ظهرت معظم المقالات التي ترجمها واعدها خالد البسام فيها وتلك المجلة مصدر لا يستهان به لرصد بدايات الاهتمام الأميركي بالمنطقة. في ثرثرته فوق دجلة وهي بالأساس ثرثرة أميركية يأخذنا المترجم للعيش مع بشر يعرفون سلفا أنه غير مرحب بهم، فالمبشر ألبرت أدوارس، وبعد أن يشرب الشاي في الحلة، يقول إنهم كانوا يعرفون أن الأكواب التي يشربون بها تأخذ طريقها الى النهر مباشرة تخلصا من النجاسة.

ورمي الأكواب التي يستخدمونها لا يعني بالضرورة أن المجتمع لم يكن متسامحا في المطلق، فهناك قصص تدل على أريحية حقيقية مع الغرباء، فالمبشر جون بادو يخبرنا أن الشاعر والقاضي جميل صدقي الزهاوي كان متعاطفا مع أحد أتباعهم، اذ رفض أن يحاكمه بتهمة الزندقة والكفر بناء على دعوى رفعها متعصب سوري.

ولا يخلو الكتاب من مبشرات بينهن السيدة وورال التي عملت في مستوصف البصرة، وسوانتينا يونغ التي ادارت مدرسة في المدينة ذاتها وأبرزهن المبشرة دبري توماس التي كانت مدرسة بغداد من نصيبها.

في واحدة من طرائف الكتاب الموحية تشكو المبشرة وورال من أن النساء في العراق جاهلات ومزعجات، وتقدم مثالا عن واحدة تعمل معها في المستوصف وتحضر دروسها التبشيرية، وفي أحد الدروس وبعد أن اسهبت المبشرة في شرح انتصار المسيح عليه السلام على الشيطان، سألت من انتصر في العالم؟ فقالت لها التلميذة دون تردد: الشيطان. كان ذلك في القرن الماضي، لكن سؤال المبشرة الأميركية ما يزال مشروعا، ولو سألته الآن لما اختلفت أجوبة كثيرين عن جواب التلميذة للمبشرة.