العائش في الحقيقة

TT

تمر في حياتنا ـ أفراداً وشعوباً ـ شخصيات تترك فينا ولنا آثاراً تعيش فينا، وتشكل حاضرنا ومستقبلنا، وقد يستمر هذا التأثير إلى نهاية حياة الأفراد، ونهاية تاريخ الشعوب.

ليس مهماً كم يطول عمر من يمر في حياتنا ليؤثر فينا ـ أفراداً وشعوباً ـ وليس مهماً كم بقي معنا وبقينا معه، فالتأثير بالتكوين والتشكيل هو فعل لا يرتبط كثيراً بحدود زمنية. وهكذا يمر علينا كثيرون ـ أفراداً وشعوباً ـ تطول فترة البقاء أو تقصر، ولكن لا يبقى معنا إلا من شكل حياتنا.

في الحضارة المصرية القديمة، دائما استوقفني ذلك الجمال، وتلك المثالية القصوى في التعبير عن فراعنة مصر وحكامها، سواء في النقوش أو التماثيل، نرى أشخاصاً مثاليي التكوين والأبعاد بدرجة يكون مبالغاً فيها في الرغبة في تقديمهم في صور أقرب إلى المقاييس المكتملة لصورة الرجل أو المرأة، فمن منا رأى تمثالاً أو نقشاً لفرعون بدا فيه في غير تلك الصورة المثالية؟ أظن لا أحد منا يمكن أن يدعي ذلك، إلا في حالة واحدة حالة أخناتون. ذلك الفرعون الذي حكم مصر 17 عاماً في الفترة ما بين 1353/1336 قبل الميلاد، حكم منها خمسة أعوام باسم أمنحتب الرابع، قبل أن يعلن التوحيد في مصر وكل البلاد التابعة لها، ويغير اسمه إلى أخناتون. هذا الفرعون الذي حكم تلك الفترة البسيطة، اختار أن يواجه شعبه والهه، وأن يقف أمام التاريخ بصورته الحقيقية دون تجميل أو تزييف، اختار أن يظهر في لوحاته وتماثيله برأسه المستطيلة، ورقبته الطويلة وشفاهه الغليظة، اختار أن يواجه الحقيقية مدركاً أن الحقيقة هي جوهر ما يعرف، وـــيمكن أن يـــعلم به الآخرين، حـتى إنـــه عنـــدما كان يناجي الهه، كـــان يـــصف نفــسه بأنـــه «العائش في الحقيقة»، ثـــم اتخـــذ ذلـــك وصـــفاً لـــه.

اعتبر اخناتون هو مؤسس الوحدانية في مصر القديمة، ومنع تقديم القرابين البشرية التي كانت تقدم إلى الالهة في المعتقدات المصرية القديمة، ومنع صيد الحيوانات لمجرد المتعة، وغير عاصمة البلاد طيبة إلى مدينة «أخيت ـ أتون» بتل العمارنة ووصفها في نصوصه بـ«المدينة الطاهرة». بعد موته عادت العاصمة إلى طيبة، وأهمل اسم اخناتون في القوائم الرسمية التاريخية، وسموه «المهرطق»، وعادت نقوش وتماثيل الفراعنة كما كانت مثالية وجميلة، يبدو فيها الفراعنة في أجمل صورة وأقوى حالة، لا يظهرون كبشر عاديين يمكن أن تكون أنوفهم طويلة أو رؤوسهم غير متناسقة، وأيضاً لا يظهرون كبشر يخطئون ويصيبون، وبشر يشعرون بالضعف، ويعترفون بكونهم ليسوا كاملين.

قد يكون أخناتون الأقل صوتاً بين كل هؤلاء الفراعنة، قد يكون المهمل ـ بضم الميم ـ في مراحل تاريخية عديدة، قد يكون أقل جمالاً في شكله وصوره وتماثيله التي اختار أن تكون كذلك، ولكن المؤكد أنه الأكثر انسانية، والأكثر حضوراً بين الناس. قد يهاب البشر تمثال رمسيس الثاني القوي المحارب، ولكنهم بالتأكيد يشعرون بالحب والألفة والانسانية، عندما يرون تمثالاً لأخناتون الذي يشبههم. ما يوازي أهمية أخناتون الحاكم والموحد الأول في نظري، هو أخناتون الانسان، البشر، المعلم.

ليس درساً في التاريخ، ولكن لا أدري لماذا احتلت ذهني صورة اخناتون، وسيرته وأثره عندما دفنت والدي رحمه الله قبل ايام، تذكرت أثر البشر في تاريخنا ـ أفراداً وشعوباً ـ وكيف يمكن لهم أن يحفروا فينا ويشكلوا حياتنا ومستقبلنا دون ضجيج، وأن يعلمونا أن نعيش الحقيقة، حتى بعدما يغيب «العائش في الحقيقة».