صخب الانتقال من التدين الأصولي.. إلى التدين العقلاني

TT

أوروبا هي أكبر مختبر حضاري في التاريخ. فما حصل فيها طيلة الاربعمائة سنة الماضية يوازي كل ما حصل في تاريخ البشرية منذ ان وجدت وحتى الآن. بل ويشكل قطيعة فكرية عميقة معه. فكل العلم القديم من فيزياء ورياضيات وفلك وبصريات وطبيعيات اصبح لاغيا بالقياس الى العلم الاوروبي الحديث. في علاقة كيمياء جابر بن حيان بالكيمياء الحديثة، أو طب ابن سينا بطبنا المعاصر؟ لا شيء. وقل الامر ذاته عن علم الفلك بالطبع وبقية فروع المعرفة. وحتى فيما يخص العلوم الدينية والدراسات التاريخية ـ النقدية للتراث هناك مسافة ضوئية تفصل بين أوروبا والعالم العربي ـ الاسلامي. والواقع أن أوروبا حققت المعادلة شبه المستحيلة التالية: الا وهي السماح للمؤمنين التقليديين، والمؤمنين العقلانيين، واللاأدريين، والملاحدة بأن يتعايشوا في نفس المجتمع جنبا الى جنب من دون ان يعتدي أحد على أحد. ولكن أوروبا لم تتوصل الى هذه النتيجة الا بعد معارك حامية خاضتها هذه التيارات ضد بعضها البعض على مدار القرون. ويرى المفكر الفرنسي بول هازار ان محاكمة المسيحية، أو قل محاكمة الفهم الاصولي والمتعصب للمسيحية، كان الشغل الشاغل لفلاسفة أوروبا طيلة القرن الثامن عشر المدعو بعصر التنوير الكبير. لا ريب في ان عصر النهضة كان مهما، لكنه ظل خاضعا للتصور المسيحي للعالم في نهاية المطاف. لا ريب في ان القرن السابع عشر، عصر ديكارت وغاليليو ومالبرانش ولاينبتز وسبينوزا، كان مهما ايضا، لكنه لم يتجرأ على وضع العقائد الدينية المسيحية على محك الشك والتساؤل بشكل علني صريح الا فيما يخص سبينوزا ربما. والاشياء كانت تتم في السر آنذاك وتنحصر ببعض المفكرين المعزولين.

وحده القرن الثامن عشر تجرأ على احداث تلك القطيعة البستمولوجية التي لم تتجرأ عليها اي حضارة بشرية حتى الآن: واقصد القطيعة العلنية الصريحة مع الرؤية التقليدية للعالم واحلال الرؤية العلمية أو الفلسفية محلها. كيف حصل ذلك؟ كيف حصل هذا الحدث الذي يدوخ العقل؟ ولماذا لم تنطبق السماء على الارض بعد ان حصل؟ لأن العقل استطاع ان يشكل حضارة متماسكة حلّ فيها العالم أو الفيلسوف محل الكاهن أو المطران. وهذه الافكار الجديدة والتنويرية المضادة للعقائد الدوغمائية المتحجرة التي تفرض نفسها عن طريق التسليم من دون نقاش اصبحت منتشرة، شائعة، ووصلت الى الجماهير ولم تعد محصورة بحفنة من كبار المفكرين. ولهذا السبب استطاعت ان تنتصر في نهاية المطاف على افكار الاصوليين المسيحيين بعد ان توسعت قاعدتها الشعبية تدريجيا وأدت الى اندلاع الثورة الفرنسية. ولذلك يمكن القول بأن الأوروبيين المعاصرين هم الاحفاد المباشرون لعصر التنوير. بل ان الاتحاد الاوروبي الذي يتشكل الآن تحت انظارنا قائم في فلسفته العميقة على حضارة التنوير لا على الحضارة المسيحية التي سبقتها. من هنا غضب البابا على هؤلاء «الملاحدة» الذين نسوا الانجيل أو أهملوه واستبدلوا به كتب كانط وجان جاك روسو وفيكتور هيغو.. الخ،، ومعلوم ان يوحنا بولس الثاني كان يحلم بإعادة اوروبا الى جادة الصواب، اي الى المسيحية، لكنه لم يفلح في ذلك حتى الآن. نقول ذلك على الرغم من ان الدين في اوروبا لم يعد يتعارض مع العقل أو العلم كما كان يحصل سابقا. ولم يعد يفرض نفسه من فوق عن طريق الاكراه أو القسر. وهنا يكمن الشيء الجديد بالقياس الى عصر التنوير أو حتى القرن التاسع عشر عندما كان الاصوليون لا يزالون قادرين على الضرب وتخويف العلماء والمفكرين. وأكبر دليل على ذلك ان فولتير نشر بعض كتبه بدون توقيع. وأما هيغل فلم تنشر دراساته عن الدين الا بعد موته. وقس على ذلك. وبالتالي فالمسألة لم تكن سهلة. والتحرير الفكري كان بطيئا، صعبا، متعثرا، ولكنه نجح في نهاية المطاف. ولهذا السبب فإن التجربة الاوروبية تتخذ طابعا نموذجيا. فقد كانت حصيلة اشتغال الذات على ذاتها، أو مصارعة الذات لذاتها بشكل جدلي خلاق. وهذا هو أعظم أنواع التحرير. بل انه لا يمكن ان يتحقق التحرير ـ أو الخلاص الحقيقي ـ الا من خلال ذلك. ولهذا السبب فإن كل محاولات المثقفين العرب للهروب من المشكل أو للقفز عليه عن طريق تبني الآيديولوجيات الجاهزة والمستوردة من الخارج بمفاتيحها باءت بالفشل الذريع. وكان ان حصدنا كل هذا المد اللانهائي من الموجات الاصولية. فحل المشكلة التراثية لا يكون الا بخوض معركة الصراحة معها على المكشوف، ولهذا السبب فإن كاتب هذه السطور اتبع منهجية محمد اركون لمدة ربع قرن لأنها تتموضع على ارضية الاصوليين بالذات وتقوم بتفكيك مقولاتهم المتحجرة بشكل علمي وتاريخي دقيق، ولهذا السبب قلت بأن التحرير من الداخل أهم بألف مرة من التحرير الآتي من الخارج لأنه أكثر اقناعا وجدوى، وأكثر رسوخا في الارض، فما معنى ان اقف واقول: انا شخص متحرر تنويري، لا علاقة لي بكل هذا التخلف أو التعصب! انا ضد التراث الجامد المكرور والممل.. انا حللت مشكلتي الشخصية مع الماضي أو ماضوية الماضي واصبحت ماركسيا، أو ليبراليا، أو ملحدا.. الخ، بل انا شخص تجاوزت الحداثة، واصبحت من جماعة ما بعد الحداثة!!. هذا هراء ومراهقة فكرية لا أكثر ولا أقل.. اني اعرف ان هذا الكلام قد يزعج بعض المثقفين الحداثويين أكثر من اللزوم. ولكن ينبغي ان يعلموا ان كلامهم لا معنى لهم اذا لم يكن ناتجا عن مصارحة داخلية للذات مع ذاتها، اذا لم يكن محصلة لمفر اركيولوجي في الاعماق وتعزيلاً لكل الرواسب المتراكمة، سواء أكانت طائفية أم مذهبية أم قبلية أم عشائرية.. بعد ان يقوم المثقف بكل هذه المعركة مع نفسه ومع اليقينيات التي ترسخت في طفولته والتي هي أعز عليه من قلبه يحق له ان يقول بأنه قد تحرر بالفعل من رواسب الماضي. واما قبل ذلك فلا.

ثم ما معنى ان اقول بأن التراث الماضوي لا معنى له اذا كان ثلاثة ارباع الشعب متعلقين به ويعيشون عليه ويحقق لهم التوازن والطمأنينة؟ وهل يحق لي ان افعل ذلك اذا كنت مثقفا جادا ومسؤولا؟ ألا ينبغي ان أمشي معهم خطوة، خطوة على طريق التحرير لكي أتوصل بهم في نهاية المطاف الى التأويل العقلاني للدين؟ هذا ما فعله فلاسفة التنوير في أوروبا عندما دخلوا في صراع مع الاصوليين المسيحيين وتصورهم الغيبي، اللاعقلاني، القائم على الخرافات والمعجزات بشكل اساسي.. ومعظم المثقفين في ذلك العصر كانوا من المؤمنين بوجود الله، ولذلك كانوا يدعونهم بالمتألهين او الربوبيين. ولكن ايمانهم كان يختلف عن ايمان الاصوليين والعامة من حيث اهمالهم للطقوس والشعائر واعتبارها نسبية، فالمهم هو التدين الداخلي الجواني لا التدين الخارجي البراني الاستعراضي. وفولتير الذي خاض المعارك الشهيرة مع الكهنة كان من هؤلاء. وكان يقول بوجود كائن أعلى صانع للكون او مهندس الكون. ولكنه كان يقول ايضا بأن الانسان مسؤول عن اعماله وان العقل هو الذي يحكم العالم. فالله الذي صنع هذا العالم بشكل عقلاني منظم على احسن ترتيب لا يمكنه ان يطلب منا التخلي عن العقل وبالتالي، فالفهم الصحيح للدين هو ذلك الذي يتوافق مع العقل ولا يتناقض معه بشكل صارخ، كما هو حاصل اليوم في جهتنا. بل وكان فولتير يذهب الى ابعد من ذلك. كان يقول: بأن هذا التصور العقلاني للدين اكبر من المسيحية واوسع لأنه يشمل البشرية كلها. في المسيحية تظل محصورة بعدد محدود من الناس مهما كبرت وانتشرت. اما التدين العقلاني او القائم على العقل فلا حدود له. انه يشمل الصينيين والهنود والافارقة والاوروبيين والعرب والمسلمين وجميع الناس الذين يستخدمون عقلهم، وبالتالي فهناك اديان خصوصية ودين كوني عام يشمل الجنس البشري بأسره هو دين العقل. فالعقل هو القاسم المشترك الاعظم بين البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم.

ثم طرح فولتير على الاصوليين المسيحيين وبالاخص الكاثوليكيين هذا السؤال: انتم تقولون بأن المؤمن الحقيقي المقبول عند الله او الذي سيحظى بالنجاة في الدار الآخرة هو ذلك الشخص الذي ينتمي الى ديننا او مذهبنا فقط. ولكن ماذا سنفعل ببقية البشر؟ بل ماذا سنفعل بالناس الفضلاء الذين عاشوا وماتوا قبل ظهور المسيحية؟ ماذا سنفعل بسقراط، وافلاطون وارسطو، بالاضافة الى آلاف الناس البسطاء المستقيمين النزيهين وماذا سنفعل بالطيبين والفضلاء من اتباع الاديان الاخرى؟ هل نكفرهم جميعا لأنهم لم يعرفوا العقيدة المسيحية ولم يقرأوا الانجيل؟ هذا السؤال كان سابقا لأوانه في عصر فولتير.. وهو يفحم جميع الاصوليين ايا تكن اديانهم ومذاهبهم. ولكن بما انهم متقوقعون على انفسهم داخل اقفاص عقائدية مغلقة فإنهم لا يشعرون بأية مشكلة ولا يخطر على بالهم ان يطرحوا هذا السؤال أبدا. ولو طرحوه لاختل توازنهم او لجن جنونهم!

من هنا صعوبة الانتقال من مرحلة التدين الاصولي الى مرحلة التدين العقلاني او التنويري والمصالحة بين الايمان والعقل كانت من اهم منجزات الحداثة.

على هذا النحو انقسم عصر التنوير الى تيارين كبيرين متصارعين. ولكن تقتضي الامانة من القول بأنه كانت توجد فئة ثالثة تشكل اقلية الى جانب هاتين الفئتين الكبيرتين: هي فئة الفلاسفة الماديين بشكل محض. ومن بين هؤلاء ديدرو والبارون وولباك ودافيد هيوم ولاميتري وآخرون.

وهؤلاء كانوا يعتقدون بأن لا يوجد عالم أخروي اوميتافيزيقي، اي ما ورائي، ولا من يحزنون. فالشيء الوحيد الموجود هو هذا العالم الطبيعي المحسوس الذي نراه ونعيش فيه كل يوم. وبالتالي، فالجنة هي هنا على هذه الارض وليست في السماء. وتحقيق التقدم المادي المطرد للانسان، وكذلك السعادة الارضية ينبغي ان يكون هدف العلماء والفلاسفة. وبالتالي فالتنوير ينقسم الى قسمين: قسم مؤمن بالمعنى العريض للكلمة وقسم مادي ملحد. وقد اشتبكا في معارك فكرية مع بعضهما البعض في الوقت الذي واجها فيه الاصولية المسيحية كل بطريقته الخاصة.