أبو مازن .. مرة أخرى وأخيرة

TT

كنت واحدا من الذين شجعوا محمود عباس (ابو مازن) على الاستقالة حين كان رئيساً للوزراء. كان دافعي آنذاك إنقاذ الرجل من محرقة محققة، وادخاره ليوم محتمل.. يكون فيه هو الحل. لقد استقال محمود عباس، من موقع اول رئيس وزراء لفلسطين.. ليقين منه، باستحالة الاستمرار بين المطرقة والسندان، فالمطرقة هي ارئيل شارون الذي اظهر كراهية لرجل السلام تفوق كراهيته لأي رجل آخر. اما السندان.. فهو الحالة الفلسطينية التي ابتلعت منصب رئيس الوزراء على مضض، مبررة هذا الابتلاع باحتمال ان يفضي الأمر الى رفع المعاناة عن الفلسطينيين، وفتح المسار السياسي بعد إغلاق عسكري دام سنوات. وخلال الاشهر الأربعة، التي قطعتها تجربة رئيس الوزراء، كان محمود عباس يمشي على حد السيف، بل انه كان اشبه بمن يخوض سباق حواجز.. فما ان يتجاوز واحدا حتى ينهض امامه ما هو اعلى واصعب.. وفي غمار هذا السباق الصعب، كان يواجه ، كل ساعة ، اختبارا شديد القسوة. الإسرائيليون يراقبون اداءه الأمني، كما لو انه جاء لهذه الغاية ليس الا.. والفلسطينيون يراقبون انجازاته التي جاء من اجلها.. كما لو انها هي وليس غيرها ما يحدد جدارته بالموقع.. ودعمه فيه. وداخل هذه الشبكة من الاعتبارات والمؤثرات المتداخلة والمعقدة حاول «ابو مازن»، بكل ما لديه من قدرات وقوى، النجاح وحين لم يستطع اطلق كلمته الأخيرة.. هذه امانتكم ردت اليكم. غادر محمود عباس موقع رئيس الوزراء، من دون ان يغادر المسرح السياسي.. غير انه وخلال ما يقارب السنة آثر الصمت والاحتجاب عن الاضواء، مفسحا في المجال امام الوضع الفلسطيني كي يجد المخارج من الازمات المتتالية التي فرضت عليه، والتي كانت كلها في حضن ازمة اكبر ـ ربما ـ ، الا وهي استمرار حصار الرئيس، او بتعبير ادق، استمرار تعطيل مؤسسة القرار الأولى.. عن اداء دورها بشكل طبيعي. كان استبعاد ابو مازن عن الاضواء خلال سنة بمثابة افساح في المجال امام رئيس الوزراء احمد قريع، كي يحاول من جانبه، شق طريقه من دون معوقات.. الى ان ظهر اخيرا ان الأمر اكثر تعقيدا مما كان يظن، وكما لو ان الأقدار تثبت كونها لاعبا سياسيا على الحلبة ، فقد مرض الرئيس عرفات ورحل عن حياتنا ، ومع ايماننا بالله وقضائه إلا اننا جميعا شعرنا بفداحة الغياب وهول الفراغ ، فوجدنا انفسنا وجها لوجه امام الحقيقة المجردة.. حقيقة تقول: لقد رحل عرفات.. وفي حالة كهذه، اي بعد تعوّدٍ على الرجل بالجملة والتفصيل قرابة ثلث قرن، وجدنا انفسنا مدفوعين بقوة غريزة الحياة، والحفاظ على الذات ، لملء الفراغ على نحو لم نألفه من قبل. لقد لذنا بالمؤسسات التي كانت في حياتنا مجرد مشروع لم يكتمل. ثم لذنا بقانون المحبة الذي بررت فيه فتح تناقضات كثيرة في سلوكها على مدى اربعين سنة. ثم.. واخيرا ، اعدنا اكتشاف محمود عباس.. وكان اول المكتشفين لأسباب عملية هم اولئك المختلفون إما معه وإما عليه. ولقد اصطلحنا على ان نعتبر اجماع المختلفين والمتفقين على محمود عباس، مظهرا ايجابيا، واتجاها واقعيا سليما، املته حاجة فتح، لاستمرار دورها الريادي والقيادي.. اضافة الى حاجة فلسطين لمنح التحرك السياسي فرصة جديدة. لقد اعادت التطورات ابو مازن الى قلب الصورة، وبدأنا في احصاء المقومات الفعلية لزعامة الرجل ، وبصرف النظر عن الخلافات التي كانت تطفو على السطح بين وقت وآخر، إلا ان الرجل كان توأم عرفات في الإقدام على المبادرات الصعبة والجريئة ، وكان احد اضلاع مربعنا الذهبي التاريخي ، ابو عمار وابو اياد (صلاح خلف) وابو السعيد (خالد الحسن). ولقد اخترت هذه الاسماء لأنها كانت رائدة الواقعية السياسية في حياتنا الوطنية ، من دون إغفال اثر التاريخيين الآخرين في مجالات اخرى وأخص بالاشارة مبدئية فاروق القدومي (ابو اللطف) القومية. واذا كان تاريخنا الفتحاوي، بوقائعه المشهورة او المستترة، يضع محمود عباس في المركز. الا ان ما تم اكتسابه بعد مجازفة اوسلو، بكل ما لها وما عليها ، منح الرجل مؤهلات اضافية لا تقل اهمية وقوة تأثير عن المؤهلات الأصلية. فالعالم يريد ابو مازن، يريد التعامل معه، والإفادة من مبادراته السياسية، التي عرفت كيف تشق طريقها بين اعتبارات الثوابت، ومتطلبات المرونة. اما الاسرائيليون الذين نقدوا انفسهم ذاتيا ، حين ساهموا على نحو رئيسي في تقويض حكومة ابو مازن ، فإنهم الآن مضطرون بقبول الرجل وتقديم التسهيلات له ، وان لم يفعلوا فلن يفلتوا اخيرا من تهمة تحمل مسؤولية اضاعة الفرص بعد ان كانت هذه المسؤولية تلقى عادة على الفلسطينيين. وفق كل هذه الاعتبارات اختارت فتح محمود عباس خلفا للراحل الكبير ياسر عرفات . وعلى اهمية هذا الاختيار الحزبي المدروس، يتعين على محمود عباس ومعه حركة فتح ، ان ينتبها كثيرا، لحساسية الفلسطينيين تجاه الاستئثار الأزلي والوراثي بالسلطة والقرار، فما نحن بصدده ليس مجرد محاولة الاحتفاظ الفتحاوي بالنفوذ التقليدي بمنطق «انا ابن فتح ما هتفت لغيرها»، بل اننا امام مهمة اكبر واوسع، انها مهمة انقاذ وطن ومجتمع وحقوق ، بعد سنوات طويلة سال فيها الدم الزكي ليغطي ارض الحلم الفلسطيني، وقوضت فيها اكثر من مرة دعائم دولتنا التي بنينا اساساتها بالعرق والدم ، وصمد فيها الفلسطينيون وتحملوا ما فوق طاقة البشر على التحمل، من دون ان ترتفع على بيوتهم واضرحة شهدائهم أية راية بيضاء،ومن دون ان يتراجع أي منهم عن أي من الحقوق.

ومهمتنا الآن تتجسد في كيفية تحويل هذا الصمود الأسطوري الثمين الى حقائق سياسية تقودنا بمجملها الى الهدف الأخير. وتلك ليست مهمة فتح وحدها، ولا رسالة مرشحها للرئاسة وحده ، إنها مهمة كل الفلسطينيين بكل فصائلهم وقواهم، وحتى الآن يبدو اننا نسير في الاتجاه الصحيح. لقد عاد ابو مازن مرة اخرى الى الحلبة كخيار وطني. ولكي لا تكون هذه العودة للمرة الأخيرة لا بد ان تؤمن للرجل كل مقومات النجاح.. والنجاح هنا لا يعني الحصول على الأصوات الكفيلة بجعله رئيسا، وانما بإنجاز الرهانات الموضوعة عليه، ويتوقف جزء مهم من هذه الرهانات بعد الشعب الفلسطيني، على العالم واميركا واسرائيل.

* وزير الإعلام الفلسطيني السابق