ظاهرة عالمية: الإسلام والمسلمون في «عمق» السياسة الدولية

TT

نظمت دائرة شؤون الاعلام التابعة للأمم المتحدة ندوة، كان موضوعها وعنوانها «مجابهة التعصب ضد الإسلام: التثقيف من أجل التسامح والتفاهم» وألقى الأمين العام للأمم المتحدة «كوفي عنان» كلمة في الندوة قال فيها: «كثيرا ما تشوَّه مبادئ الإسلام وتعاليمه، وكثيرا ما يُستشهد بها في غير سياقها. هذا إلى جانب أخذ أفعال وممارسات معينة باعتبار أنها تمثل هذا الدين الثري بالقيم أو ترمز إليه.. ويسمح في كثير من الدوائر بتجريح المسلمين ولا يجد هذا التجريح نقدا ولا استهجانا مما يضفي على التعصب ضد الإسلام هالة زائفة من القبول.. إن الجهود المبذولة لمكافحة التعصب ضد الإسلام لا بد أن تعنى كذلك بقضية الإرهاب والعنف الذي يرتكب باسم الإسلام، فلا ينبغي الحكم على الإسلام بأفعال المتطرفين. فالقلة تسيئ إلى الأغلبية، وفي الحكم الخاطئ على الأغلبية ظلم، وينبغي على المسلمين بوجه خاص أن يجهروا بإدانة الأفعال الشريرة التي ترتكب باسم دينهم. ومن الضروري ان تنبع الحلول من داخل الاسلام نفسه. ربما في إطار مبدأ الاجتهاد الذي يعني التفسير الحر للأمور. ولا بد لأي استراتيجية تتوخى مكافحة معاداة الاسلام: أن تعتمد بقوة على التثقيف. ولا شك ان الحاجة ماسة إلى أن تقوم السلطات العامة بدورها في شجب معاداة الإسلام».

هذه صورة من صور «الاهتمام الدولي» بالشأن الاسلامي: دينا وأمة.

وثمة صورة ثانية من هذا الاهتمام المكثف: رسمها تقرير أعدته لجنة استشارية تابعة لوزارة الدفاع الأميركية. فمن مضامين هذا التقرير ووقائعه: ما نصه: «ان الولايات المتحدة بدأت تخسر الحرب على الأفكار المتشددة في العالم الإسلامي، وأنها ارتكبت خطأ في عدم توضيح تحركاتها العسكرية ودبلوماسيتها واستراتيجيتها بشكل صحيح للعالم الإسلامي. إن اخطاءنا تزعج أصدقاءنا. وتقدم مساعدة غير متعمدة لأعدائنا، فنحن اليوم نقارن غريزياً: الجماهير الإسلامية، بتلك التي كانت مضطهدة في ظل السيطرة السوفياتية، وهذا خطأ استراتيجي«.

أما الصورة الثالثة فنراها في تصورات كاردينال كاثوليكي بارز، وفي مفاهيمه ومقترحاته، وهو الكاردينال «جود فرايد دانيلز«. كاردينال بلجيكا، وكبير أساقفة بروكسل، ميشلان، وأحد أبرز المرشحين لخلافة البابا يوحنا بولس الثاني.. لقد قال هذا الكاردينال: «إن على المسلمين ان يستعدوا لتفسير القرآن بقدر أكبر من المرونة. وأنه يجب على المسلم الأوربي: ألا يرى تناقضا بين اعتناق الإسلام وبين الاندماج في الثقافة الأوروبية.. من جهة أخرى: يجب أن يتخلى الجانبان ـ المسيحي والمسلم ـ عن افكار الماضي، وأن يتوصلا إلى افكار يقبلها الطرفان، فهناك الكثير من الأشياء الملتصقة بالذاكرة، وعلى سبيل المثال: لدى الطوائف المسلمة ذكرى الصليبيين التي ما زالت حية في الأذهان بدرجة كبيرة».

إن هذا «الاهتمام الكبير» بالعالم الإسلامي: دينا وبشرا. ينبغي أن يقابل ـ على الأقل ـ باهتمام مماثل من قبل المسلمين الذين لا يزال كثير منهم «محشورا» في الصغائر البيْنيّة، أو في الأفق الضيق الذي يتعامل من خلاله مع عصرنا وعالمنا.

ولنناقش ـ الآن ـ: طرح كوفي عنان.. وتقرير البنتاجون.. ومفاهيم الكاردينال دانيلز:

1 ـ من أظهر دلالات كلمة كوفي عنان: الاعتراف ـ على هذا المستوى ـ بأن هناك «حملة معادية للإسلام» ومحرضة عليه، وان هناك «دوائر» تستغل أفعالاً شريرة يمارسها غلاة مسلمون فتصعد الاتهام والإجرام ضد الإسلام نفسه، وضد المسلمين جميعا، وان عدم نقد واستهجان ما تقوم به هذه الدوائر: أضفى على التعصب ضد الإسلام هالة زائفة من القبول.. وهذا محور يقضي بقلب الصورة قلبا كاملا، أو تعديلها بطريقة جوهرية على أقل تقدير.

فالصورة النمطية الرائجة ـ ولا سيما بعد مصيبة 11 سبتمبر 2001 ـ هي: أن المسلمين هم صانعو الكراهية والتعصب وهم الذين يمارسونهما ضد الآخر. بيد أن في الطرح الجريء الأمين لكوفي عنان: ما ينتقل بالوعي العالمي إلى صورة مضادة، وهي: أن المسلمين هم ـ في الحقيقة والواقع ـ: ضحية الكراهية والتعصب، وأن «آخرين» ـ في مستويات مختلفة ـ يمارسون معاداة الإسلام، والتعصب ضد أتباعه.. ولو ان في العالم الاسلامي «مؤسسة رصد» قوية ـ على نسيج ما في الغرب من مؤسسات مماثلة ـ لرصدت ـ من دون تحريض ـ ما يملأ موسوعة ضخمة من معاداة الاسلام، والتحريض على المسلمين، وهو كم هائل من العداوات يصغر بجانبه ـ حتماً ـ: الكم الصادر من حفر الظلام في العالم الاسلامي ضد الغرب. وهذه الفروق هي ذاتها الفروق التي تفصل بين عالم غربي متقدم مدرع بوسائل التقنية، ومؤسسات الدراسة والبحث، ووسائل الاتصال النافذة، والميزانيات الهائلة المرصودة لذلك كله، وبين عالم اسلامي شديد التخلف.. وليس في هذا القول ذرة واحدة تسمح بالتهوين من أمراض مسلمين: تنغل نفوسهم بالحقد والكراهية والتعصب، وتوجه ضد الغرب. فليس يصح ـ لا عقلا ولا شرعا ـ الاستهانة بأي كم، وأي نوع من الهجاء والقذف والسب. فمن سب إنسانا، فكأنما سب الناس جميعا.. ثم اننا نشكر كوفي عنان على قوله: ان الحل ـ فيما يخص المسلمين ـ ينبع من مبدأ الاجتهاد المتمثل في التفسير الحر للأمور، فهذه حقيقة لا نرى للمسلمين نهضة صحيحة بدونها.

2 ـ بالنسبة لتقرير البنتاجون، فإنه إذا كان صحيحا فيما يتعلق بـ «المصلحة الوطنية الأميركية» بعيدة المدى، فإنه صحيح أيضاً فيما يتعلق بالعالم الإسلامي. وهكذا فإن كل تفكير عقلاني رشيد، إذ ينفع أصحابه، فإنه ينفع الآخرين، أو لا يضرهم كحد أدنى للنفع.. فليس للولايات المتحدة، أي مصلحة في معاداة العالم الإسلامي، ولا في ان تكون صورتها لديه شائهة قبيحة عدوانية. فبمقياس الاعلانات.. والسياسة.. والاقتصاد، يدرك عقلاء الناس: ان الصورة القبيحة تترتب عليها أضرار وخسائر مادية.. ولقد ادرك المسؤولون الأميركيون هذه الحقيقة فرصدوا ـ منذ قليل ـ 600 مليون دولار لتحسين صورة أميركا لدى الرأي العام العربي الإسلامي. ولكن المال والقوة وحدهما لا يكفيان، ولذلك دعا المفكر الأميركي «جوزيف ناي» في كتابه «مفارقة القوة الأميركية»، دعا إلى ما سماه (القوة الطرية) وهي إقامة علاقات مع العالم وفق (القيم النبيلة) الجذابة. ويمكن للولايات المتحدة أن تستفيد في هذا المجال من حكمة قالها نبي الإسلام وهي: لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق«.. يمكن أن تستفيد أمريكا من هذه الحكمة بمقتضى مبدأ «فلسفة المنفعة» الأميركية التي من خصائصها: تقويم الأفكار وتثمينها بمقدار ما فيها من نفع ومصلحة: عاجلة وآجلة في هذه الحياة الدنيا.

3 ـ ثم نفرغ للكاردينال «دانيلز» وجملة مضامين كلامه هي:

أ ـ تفسير القرآن بقدر أكبر من المرونة.

ب ـ التحرر من الإرث التاريخي المملوء بالعداوات والذكريات الأليمة.

أولاً: تفسير القرآن بقدر أكبر من المرونة.. فهذا طرح يحتمل مفاهيم ثلاثة 1 ـ ثورة في ذات النص القرآني كما حدث في المذهب البروتستانتي.. هذا المفهوم مستحيل في الاسلام لأن القرآن لم يبدل، ولن يبدل. 2 ـ المفهوم الثاني هو: توسيع باب الاجتهاد الإسلامي وتنشيطه. وهذا مفهوم مقبول 100% على ان هذا المفهوم نفسه هو المانع من تبديل النص: بمعنى ان النص القابل للاجتهاد في كل زمان ومكان لا داعي لإلغائه.

ولقد اضطر لوثر إلى تبديل النص لان باب الاجتهاد كان مقفولاً.. يضم إلى ذلك ان الكاردينال دانيلز نفسه لا يوافق البروتستانت على ما فعلوه في المسيحية، وإلا لما ظل على كاثوليكيته. 3 ـ المفهوم الثالث هو: تفسير الاسلام على نحو يتسع لتقبل الأصول المشتركة. وهذا حاصل: نصا من غير تأويل ولا تفسير. فقد نص القرآن على وجوب إيمان المسلمين بالاصول المشتركة مع أهل الكتاب: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا أمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون».. فالمسلم الذي لا يؤمن بعيسى ـ عليه السلام ـ ولا بإنجيله، إنما يكفر بالنبي محمد، ويكفر بالقرآن.. ان القرآن سجل مقدس حافظ لأصول الكتب التي أنزلها الله، ولنبوات إبراهيم وموسى وعيسى واسحاق ويعقوب ويوسف وزكريا وداود وسليمان.. وحافظ لحصانة مريم وطهارتها واصطفاء الله لها.. فلماذا يبدل؟!!

ثانياً: التحرر من الارث التاريخي الأليم.. ونحن نقول للكاردينال دانيلز: إذا أتيتنا تمشي في هذا الحقل: أتيناك هرولة.. فهذه أمنيتنا ورغبتنا وروح نفوسنا.

فنحن أجيال يفصل بينها وبين تلك المآسي ألف عام تقريباً، وليس من الشرع ولا من العقل: أن تتحمل الأجيال المعاصرة تبعة ما وقع قبل ألف عام.. ولكن هل تكفي الرغبة وحدها في بناء علاقة متينة بين الأمم؟. الرغبة مهمة. إذ هي قرينة على «الاستعداد». على ان ذلك كله لا يكفي. فقوام العلاقة الصحيحة أ ـ التقدير العادل المتبادل للمصالح المشتركة ب ـ الكف الناجز عن كل مظلمة جديدة: معنوية أو مادية جـ ـ الاعتراف الصدوق الموضوعي المتبادل بـ «التعددية الحضارية» والتحرر الإرادي من كل نزوع لجعل العالم كله خاضعا لـ «نموذج حضاري واحد» فهذا أمر لم يرده الله نفسه، ولم يفعله.