على أعتاب عام جديد.. ظلام العالم العربي والإسلامي إلى متى..؟

TT

كل اضواء الشانزيليزيه، وهي بديعة في فترة الاعياد هذه، لا تستطيع ان تبدد عتمات القلب الداخلية. قد تنزل «اجمل شارع في العالم» سيرا على الاقدام حتى تصل الى ساحة الكونكورد والمسلّة المصرية. وعندئذ اما ان تنحرف يسارا في اتجاه الأوبرا او ان تواصل طريقك مخترقا حدائق التويلريه ومتحف اللوفر حتى تصل الى نهر السين. وفجأة تتوقف وتتساءل: لماذا انا هنا؟ ماذا فعلت طيلة اكثر من ربع قرن؟

عاما بعد عام تمر الاحداث والفصول من دون ان يحصل شيء جديد تحت الشمس. ولكن ما هذا الشيء الذي نتوقع وصوله ولا يجيء؟ وهل نحن بانتظار «غودو» كما يقول صموئيل بيكيت في مسرحيته الشهيرة؟ حل مشكلة فلسطين لا يجيء ويبدو اكثر استعصاء من السيد «غودو» نفسه. منذ خمسين سنة ونحن ننتظر نهاية هذه التراجيديا حتى مللنا من الانتظار ووصلنا الى مرحلة العبث او اللامعقول. يخيل اليّ احيانا ان الموقف الوحيد الممكن في هذا العالم هو موقف العبث او العدمية الخالصة. والآن انضافت اليها فاجعة العراق والسودان ودارفور، والحبل على الجرار. كابوس تاريخي طويل، طويل، لا بداية له ولا نهاية. واذا كنت في السنوات الاولى من اقامتي في باريس لا ازال احلم بزوال الكابوس يوما ما، فاني اصبحت الآن متأكدا انه ينبغي التفاوض معه بشكل او بآخر، لأنه لن يزول في الامد المنظور. ينبغي التعايش معه وربما تقبيل يديه ورجليه!

ولكي يستوعب عقلي هذه الحالة، لكيلا ينفجر تماما، رحت اغطس في التاريخ الاوروبي القديم، عدت الى فترة الحروب الاهلية والمجازر التي حصلت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين قبل تشكل الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون. وذلك لان مقارنة الوضع الحالي للدول العربية بالدول الاوروبية تشعرك بالاحباط الكامل واليأس المطبق. وبالتالي فإنه لا بد من ان اعزّي نفسي بشكل او بآخر. ثم قلت: اذا كانت هذه الامم المتحضرة التي تنعم الآن بكافة انواع الحريات وحقوق الانسان قد شهدت كل تلك الفواجع ثم خرجت منها، فلماذا لا يحصل نفس الشيء في العالم العربي والاسلامي؟ لماذا لا ينجلي الكابوس الاخطبوطي يوما ما عن بلداننا، مثلما انجلى عن انكلترا او فرنسا او هولندا او المانيا.. ويبدو انه في طريقه الآن لأن ينجلي عن تركيا التي فرضت نفسها على الاتحاد الاوروبي في القمة الاخيرة بقيادة زعيمها الشاب: طيب رجب اردوغان، فهذا الانضمام يعني ان المصالحة التاريخية بين الاسلام والحداثة ممكنة وانه يوجد خيار آخر امامنا غير صدام الحضارات الذي يطبّل له المتطرفون من كلتا الجهتين ويزمّرون.

وانضمام تركيا يعني ان حدود الاتحاد الاوروبي قد اصبحت متاخمة لحدود سوريا والعراق وايران، وسوف تكون لذلك انعكاسات وتفاعلات ضخمة. وهذا يعيدنا الى موضوع الاصلاحات الذي طرح في «منتدى المستقبل» او «مؤتمر دبي» او سوى ذلك من الندوات والمؤتمرات. فتركيا تقوم بثورة هادئة للحاق بمركب الحضارة، ويبدو انها ستنجح في ذلك. فلماذا لا ننجح نحن؟ ولكن يبدو اني نسيت القضية الفلسطينية التي يتوقف مستقبل العرب في التقدم على حلها. وليس العرب هم الذين يقولون ذلك فقط، وانما قادة الدول الاسلامية الاخرى. وقد فوجئت مؤخرا بأن برويز مشرف يلح عليها اكثر من قضية كشمير، ويعتبر ان تحجيم الحركات الراديكالية المتطرفة يتوقف على ايجاد حل معقول لها. فهل سيفهم بوش ذلك ويكف عن دعمه لشارون واليمين المتطرف الاسرائيلي؟

هذا ما قاله لقادة الغرب في جولته الاخيرة من واشنطن، الى باريس، الى لندن.. وهذا ما يقوله طيب رجب اردوغان الذي يبدو انه اصبح مكلفا بالدخول في صلب الموضوع وحل مشكلتنا مع اسرائيل. وربما اصبح بمثابة المندوب السامي او الوصي علينا لأننا «قاصرون» وعاجزون عن حل مشكلتنا بأنفسنا. وهذا هو ثمن انضمامه الى الاتحاد الاوروبي وهذا يعني ان انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي سوف يعيدها الى العرب ولن يبعدها عنهم كما كنا نتوهم. فتركيا ستكون الجسر او الواسطة بين العالم الاوروبي والعالم الاسلامي. وسوف تُكلف بامتصاص كل النقمة الاسلامية على الغرب، وهي عارمة وشديدة. ولذلك قلت بأن انضمامها المقبل يشكل اكبر حدث يحصل في هذا العام المنصرم. فمسألة الاصلاحات المطلوبة منا اصبحت تفرض نفسها بشكل آخر بعد انضمام تركيا الى ركب الحضارة الحديثة. فهذه المرة سوف تجيئنا الاصلاحات من الداخل اذا جاز التعبير، أي عن طريق بلد اسلامي كبير. وبالتالي فإن «بلعها» او استيعابها او هضمها سوف يكون اكثر سهولة.

وبخصوص الاصلاحات التي اصبحت مشروعة وضرورية ينبغي ان نتوقف قليلا لكيلا نقول نفس الكلام المكرور والسريع. لا ريب في ان الخارج قد يساعد على الاصلاح ويدفع اليه كما فعل نابليون بونابرت عندما غزا اوروبا ناقلا اليها افكار الثورة الفرنسية وموقظا اياها من سباتها الاقطاعي والاصولي العميق.

ولكن الاصلاح لن ينجح او قل لن يترسخ في الارض، الا اذا كان نتيجة لاشتغال الذات على ذاتها. وهذا ما تعلمنا اياه التجربة الاوروبية نفسها. فقد حصل كنتيجة لمخاض عسير استغرق فترة طويلة من الزمن. وعندما غطست في تاريخ الفكر الاوروبي اكتشفت مثلا ان التنوير في المانيا لم يظهر الا بعد حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648). وهي الحرب التي اكتسحت البلاد والعباد، ودمرت ما لا يقل عن ثلث السكان! بعدئذ اخذ المثقفون الالمان يطرحون السؤال التالي: لماذا نقتل بعضنا البعض على الهوية؟ لماذا يحقد الكاثوليكي على البروتستانتي او العكس وهو الماني مثله؟ لماذا يطلق الكاهن الكاثوليكي الفتاوى الدينية التي تبيح دم البروتستانتيين وكذلك يفعل القس البروتستانتي ضد الكاثولكيين؟ كيف يمكن الخروج من هذه الحلقة الجهنمية للحقد والحقد المضاد؟

لهذا السبب راحوا يبحثون عن طريقة اخرى لفهم دينهم غير الطريقة القديمة المتوارثة أباً عن جد منذ مئات السنين. وكان ان نتجت حركة التنوير عن كل ذلك. وبالتالي فالتنوير كان يمثل حاجة تاريخية وليس ترفا فكريا. وكان يهدف الى ترسيخ فكرة التسامح بين المذاهب والاديان. وهو شرط كل اصلاح. والآن عندما ننظر الى اوضاع العراق او سوريا او لبنان ماذا نقول؟ ماذا نقول عن متطرفي السنة او الشيعة في الباكستان وهم يدمرون مساجد بعضهم البعض حتى في اوقات الصلاة! أليس العالم الاسلامي بحاجة الى تنوير، والى اصلاح؟

واذا كنت قد اكتشفت شيئا واحدا طيلة اقامتي الطويلة في فرنسا فهو هذا الشيء: ان المقارنة لا تجوز اطلاقا بين العالم الاسلامي واوروبا الحالية، وإنما مع اوروبا في العصور السابقة. ولذلك فإن العودة الى التنوير لا تعني العودة الى الوراء الا بالنسبة لاوروبا. بالنسبة للعالم العربي أو الاسلامي فإنها تعني العودة الى الامام! بل ان فهم الاوضاع الحالية للعالم الاسلامي يتطلّب منا العودة الى ما قبل التنوير بمائتي سنة: أي الى عصر النهضة والافتراق عن القرون الوسطى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. عندئذ ابتدأت العصور الحديثة بالانبثاق والتشكل لأول مرة.