عن الفرح والحزن في الحياة العربية

TT

علمني العمر ان لا أبالغ. وعلمتني الحياة أن لا أفرح كثيراً، وأن لا أحزن طويلاً. وأنا أميل إلى استخدام تعبير «الفرح» بدلاً من «السعادة». فلا سعادة مطلقة في هذه الدنيا، انما هناك ساعة أو لحظة فرح. وكل فرح عندي ينطوي على مقدار من الحزن.

الفرح لحظة عابرة قد يتلوها ما يحزن. والحزن أيضاً لحظة عابرة يتلوها ما يُفرح، وليس ما يُسعد.

اللامبالغة في الفرح والحزن تعبير عن النبل. الفرح أو الحزن النبيل ضبط للنفس في أقصى حالات انفعالها. الحزن النبيل تلك الغصة الموجعة التي تسكن عمق النفس والشعور، فلا يتفجر الحزن صراخاً وعويلاً وبكاء.

النبل في الفرح ان لا تبالغ في التعبير عن النشوة، إغراقاً في الصياح والصخب والضحك. قد يكون حولك من يعيش لحظة حزن أو من لا يرى في ما يفجِّرك صخبا وضحكا ما يُضحك، أو ما يبعث على النشوة.

الفرح والحزن حالة نفسية تختلف عند الرجل والمرأة. الرجل عموما أقل صخبا في التعبير عن الشعور. المرأة أكثر انفعالاً في التعبير عن رقتها في فرحها وحزنها، بل هي أقدر من الرجل في الانتقال من لحظة فرح إلى لحظة حزن. دموعها قد تتداخل مع ضحكاتها. ولعل هذا التواصل أحد أسرار فرح الرجل بها.

غير ان الحزن والفرح ليسا فحسب حالة نفسية أو شخصية، فهما أيضاً حالة اجتماعية عامة. هل العرب أمة ضاحكة لاهية، أم أمة جادة ومقطبة؟ أحسب أننا أمة أقرب إلى الجدية منها إلى «الفرفشة» المنفلتة. لقد أدب الإسلام العرب، فنهى عن المبالغة في الحالتين.

في العودة إلى تبسيط فقه الشريعة، تعود السعوديون ان لا يبالغوا في الحزن. المقابر تضم الملوك والناس العاديين، فلا تمييز ولا مزارات صاخبة، لا أضرحة ولا نصب، لا تخليد لذكرى الغياب.

عند الشيعة، المبالغة في الحزن المتوارث عبر مئات السنين هي تعبير عن الندم على عدم نجدة آل البيت، الى درجة الضرب المبرح المسيل للدم من الجسد. هذا الندم ممزوج بالتراث الفارسي القديم المحتفي بالموت.

الأشقاء المصريون أكثر العرب والمسلمين مبالغة في الفرح والحزن. المصريون مجتمع ضاحك. الدعابة المصرية قد تلقيك على قفاك من شدة الضحك. خفة الظل تخفف من خفة الحال، من وطأة الفقر والبؤس. لكن المصريين أيضاً مجتمع يحزن، ويحزن بعمق، وللحزن تقاليد من نواح وعياط وسرادق ومزارات واحتفالات بذكريات.

«الأهرام» تقرأ أولاً من صفحة الوفيات. «كليشيهات» تمجيد الموتى لا تتغير عند المسلمين والأقباط. المشاركة في المواساة تصل إلى التعزية بوفاة «حماة» البيه المدير، أو ابن شقيقته، أو شقيقة السيدة والدته.

نعم، المواساة تخفف من ألم المصاب. المصريون شعب متعاطف في الفرح والحزن. إذا كان الفرح حالة مزاجية في مجتمع متماسك شديد التعاطف والتواصل وخفة الظل، فالحزن عنده موروث من قديم ما قبل الإسلام. تمجيد الموتى تجسد في بناء الأهرامات. تخليد الميت انتظارا لحياته الأخرى أدى إلى حفظ قدماء المصريين على شكل مومياوات مغلفة برقائق البردي.

لا أقول إن الحياة تواتر بين الفرح والحزن. العيش حالة من العمل والتفكير والسلوك الفردي والجماعي، تفصل بين الفرح والحزن. الأمة التي تعمل لتبني وتتقدم اجتماعياً وعلمياً وحضارياً، هي تلك التي لا تبالغ في فرحها وحزنها.

لكن الأمة التي لا تفرح لا تستطيع العيش. والأمة التي لا تحزن هي الأمة التي لا تبالي بما يصيبها من نكبات. الفرح والحزن حافزان للتغيير ولتحدي الهزائم والنكسات. من هنا يأتي العتب على أولئك المتزمتين الذين يريدون حرمان العرب من الفرح، حتى من لحظاته وخلجاته العابرة.

ومن هنا، يبالغ أهل اللهو الذين لا يرون في التسلية سوى الإغراق المتناهي في فجاجة الصخب، وفي إشغال الناس بلذاذات الجسد العاري، وتفاهات «الفوازير»، أو بالقفشات والدعابات المكشوفة التي تجعل وجه الأدب الاجتماعي يحمر خجلا. الفرح يجب ان يكون أرقى وأنفع وأنبل بكثير مما يقدمه «ستار أكاديمي» أو «سوبر ستار»، أو «الكباريه» التلفزيوني اللبناني والفضائي.

حاولت أن أبتعد عن السياسة في هذا الاسبوع الذي نودع فيه عاما ونستقبل عاما، وأن أسترسل في تأملات هي عفو الخاطر والبديهة. فليس بالسياسة وحدها يحيى الانسان، لكن حتى الفرح والحزن وثيقا الصلة بالسياسة.

المرجعيات الدينية والأصوليات المتسيسة تفرض في نواهيها وعملها السياسي كثيرا من الكآبة على الحياة الاجتماعية.

فهي لم تعد تكتفي برقابتها الصارمة على الصحافة والثقافة بكل جمالياتها الأدبية والفنية، إنما تحاول ان تستعين بسلطة القانون لإلغاء كل ما تعتبره متناقضا ومضادا لجديتها المتزمتة.

باطل وقبض ريح الزعم ان الاصلاح الديمقراطي سيأتي ببرلمانات منتخبة منفتحة على الحياة. حرية الانتخاب، بلا تربية ديمقراطية، ستأتي بكتل أصولية متجهمة ومتزمتة، وأكثر جمودا وانغلاقا من النظام السياسي. حرية الانتخاب النسبية في الكويت جاءت ببرلمان محافظ تحاول كتله الأصولية إعاقة الفرح في حياة المجتمع.

الأصوليون البرلمانيون يلاحقون وزير الإعلام بحجة انه سمح ببرامج واحتفالات غنائية وتلفزيونية. الملاحقة من الشدة بحيث حدت برئيس الحكومة الشيخ صباح الأحمد الى التحذير من «فتنة طائفية» في بلد صغير شديد التمسك باستقلاليته، ومرهف الحساسية إزاء أمنه واستقراره الداخلي. كأن ليس من حق مجتمع يملك شيئاً من البحبوحة أن يتمتع بشيء من الفرح! كأن على الأمة العربية من خليجها إلى محيطها أن تعيش كآبة أحزانها، وتزمت أحزابها وحركاتها الأصولية. والحجة دائماً أن أمة تعيش اضطهادا هنا واحتلالا هناك، لا يحق لها أن تفرح، مجرد لحظة فرح!

ألغت الأصولية التيوقراطية الفرح من حياة الناس في إيران، فانتجت جيلا أخشى أن أقول إنه كاره للدين بسبب التزمت في الثقافة والفن والرياضة والتعليم والسياسة، وبسبب التدخل الفظ في صميم الحياة الاجتماعية واليومية.

تلفزيون «حزب الله» في لبنان يمارس ثقافة الإثارة والتحريض ليل نهار، بحيث جرد ثقافة الجهاد من جديتها. إن احتج العالم، ومنع بثه من الوصول إلى كتل مليونية مهاجرة غاضبة وشبه أمية، تذرع حزب التلفزيون بحرية الإعلام المفقودة! كأنه يتجاهل فقدانها في إيران، حيث «الدش» ممنوع، لكي لا تصل ثقافات الآخرين إلى شعب محروم غارق في الكآبة.

الإخوان المسلمون في مصر أكثر مداراة للفرح، بانتظار فرحتهم بوصول «غودو» الأميركي. حزب الاخوان في العراق انسجم مع المشروع الأميركي، وقرر خوض أحزان الانتخابات، فيما زالت دولة الترابي في السودان الذي كان يهدد بتكنيس الفرح من كل «شمال افريقيا» ـ يقصد المغرب العربي ـ كانت الجزائر بحاجة إلى حزن أهالي مائة ألف قتيل، لإقناع «جبهة الانقاذ» بصرف النظر عن مشروع دولتها الطالبانية. أما أسامة بن لادن فهو ما زال ينعق كالبوم من الخرائب والمغاور، مهددا أمته والعالم ببث الحزن في المآقي والقلوب.

وكأن سورية لم تكفها أحزان مرحلتي النضال والاستقلال. فها هم الاخوان يطلون من برج لندن متوعدين بمزيد من الحزن، من خلال التهديد باستئناف «الجهاد» وفتح «ملف حماه»! ماذا في تاريخ الاخوان في سورية سوى حلفهم مع قوى الجمود والإقطاع في أيام الديمقراطية، وممارستهم عنف الاغتيال في غيبتها؟ تبقى حماه ذكرى حزينة في قلوب السوريين، لكن فتح ملفها يجب أن يبدأ بمسؤولية الإخوان أنفسهم عن نكبة المدينة الباسلة.

قلت إني حاولت أن أبتعد عن السياسة في وداع أحزان عام واستقبال الفرح بعام، لكن أحزان السياسة التي لا تنتهي تغلب الفرح، مجرد لحظات الفرح العابرة في حياة العرب.