القصيدة المظلومة

TT

كان المفروض والمتوقع أن تتحول القصيدة الحرة الى حبل خلاص للشعر العربي على أساس أنها حيوية ومتحررة من القيود ومنفتحة على التراث الانساني، وأحدث ما توصلت إليه المواهب والقرائح العربية بعد تجريب طويل، لكنها، وعلى عكس المتوقع، صارت كعب أخيل شعرنا الحديث وأضعف ما فيه.

ان هذه القصيدة المظلومة التي تعرف خطأ في النقد العربي باسم قصيدة النثر ابتليت بمحبيها أكثر من بلواها بأعدائها، فالمحب الذي يكتب نصا رديئا تحت راية التحرر من الأوزان والقوافي يضيف الى متاعب هذه القصيدة الجديدة ويعطي من لا يحبها سلاحا جيدا لمحاربتها.

فما أسهل على من يفهم الشعر على طريقة فهمه لأسعار وأوزان الشعير أن يجلس على ناصية أحد المقاهي أو يقهقه على صفحات الجرائد متندرا بذلك الشعر الرديء الذي لا يحتاج فعلا الى ناقد حصيف ليبين ما فيه من مساوئ. فالقصيدة الرديئة جدا مثل القصيدة الممتازة يدرك القارئ قوتها أو ضعفها من النظرة الأولى، ولا مناص هنا من الاعتراف بغلبة الغث على السمين في رحاب هذه القصيدة، فما أكثر الرديء في الدواوين التي تتستر بالحرية من دون أن تحوي أو تشير الى أية موهبة شعرية.

هذا لا يعني أن الرديء قليل في الموزون المقفى فعند أولئك القوم من الرديء ما يكفيهم، لكن نسبة الرديء المكتوب على نظام القصيدة الحرة تظل أعلى لأن بعض القيود التي حافظ عليها شعر التفعيلة والشعر التقليدي ما تزال تمنع من ممارسته لعدم دراية الأغلبية بتلك التفعيلات. أما القصيدة الحرة، وبسبب تخليها عن القيود، فخان بلا باب، وحمام مقطوع المياه يصرخ كل فيه على ليلاه بما لا يمكن أن يكون شعرا ولا تجوز نسبته الى الشعر.

ان القصيدة الحرة التي انطلقت كالصاروخ في الخمسينات بهمة شعراء كبار من وزن محمد الماغوط، لم يقيض لها لاحقا من ينهض بها فالجيل التالي لجيل الماغوط كان أقل موهبة وثقافة وجرأة، وكل أشكال الحريات لا معنى لها حين تضعها في يد جبناء فنيا وقليلي الموهبة.

شيء آخر حط من قدر تلك القصيدة المظلومة وأخر ازدهارها، وهو عجزها عن اختراق جدار المناهج التربوية لتدخل في المقررات الدراسية، وتشكل لنفسها شعبية بين أجيال جديدة لم تعاصر مجدها الأول.

وعلى هذا الصعيد، لا تلام القصيدة الحرة بقدر ما يلام الرعيل المتخلف في الذائقة العربية، وهو التيار الذي يختار النصوص التي تدخل في المقررات والمناهج، فقد كانت هذه الفئة على الدوام وفي معظم الأقطار العربية من أنصار التقليد لا التجديد، وهي لا تجدد وتغير مألوفها الا بعد أن يترسخ المذهب الأدبي ويتحول التيار النقدي الى حقيقة واقعة، فهل حصلت القصيدة الحرة على هذا الموقع لتفرض نفسها على هؤلاء وغيرهم..؟

نظريا نعم، لكن عمليا، من الأدق أن نقول انها وصلت أيام الماغوط الى قمة لم تستطع الحفاظ عليها، وهذا ما سهل على جماعة المناهج التربوية إهمالها لتظل المنابر الإعلامية ساحة قوتها الوحيدة، وحتى هذه بدأت تتراجع عن دعمها، لأن ذلك الدعم كان مرتبطا بأشخاص أكثر من ارتباطه بحركة أدبية أو تيار، ومع زوال نفوذ الشخص على المنبر يتراجع حزبه الفني وتزول ذائقته، ورغم هذه العقبات ما يزال المستقبل لهذه القصيدة القادرة بإمكانياتها الذاتية وبفعل قوانين التطور على فرض نفسها على الذائقة العربية المعاصرة.

[email protected]