درس أميركي في حجب الحقيقة واغتيال الشفافية

TT

الموقف الاميركي في إصدار تقرير التنمية البشرية الخاص بالحرية في الوطن العربي، لا يمكن ان يوصف بأقل من انه «فضيحة»، ونقطة سوداء في سجل الادارة الاميركية تجرح صدقيتها ونزاهتها. ورغم ان لدينا في العالم العربي الاسلامي على الأقل أسبابا عديدة للشك في تلك الصدقية والنزاهة يعرف الجميع مصدرها، الا ان الادارة الاميركية لا تكشف بين الحين والآخر عن تعزيز ذلك الانطباع وتأكيد صوابه من ناحية، في حين أنها ترصد مئات الملايين من الدولارات سنويا لمحاولة تحسين صورتها وكسب قلوب العرب والمسلمين.

الموقف الذي أتحدث عنه كان موضع جدل وتعليق، في الصحف العربية والعالمية طيلة الأسبوع الماضي، وخلاصته أن الفريق الذي شكله الصندوق الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، لدراسة موضوع التنمية الانسانية في العالم العربي، كان قد انتهى من إعداد الجزء الثالث من مشروعه، الذي عالج مسألة الحرية والحكم الصالح في العالم العربي.

ومعروف ان إصدارات المشروع بدأت في عام 2002، بتقرير تشخيصي للواقع العربي منظور التنمية الانسانية، خلص الى ان ثمة ثلاثة نواقص جوهرية تعوق التنمية على ذلك الصعيد، تمثلت في اكتساب المعرفة، وأزمة الحرية والحكم الصالح، وتمكين النساء. من ثم فإن تقرير عام 2003 ركز على موضوع المعرفة، وكان مقررا ان يصدر هذا العام التقرير الخاص بمسألة الحرية والحكم الصالح.

وكما يعلم الجميع فإن التقريرين، الأول والثاني، أثارا لغطا كبيرا في العالم العربي، في حين جرى الترحيب بهما من جانب الادارة الاميركية. أو بتعبير أدق، فقد وظفت إدارة الرئيس بوش بعض المعلومات التي وردت في التقريرين لصالح مشروعها، لمحاولة اجتياح المنطقة العربية.

وبوجه أخص، فإن المعلومات الخاصة بأزمة التخلف في العالم العربي، استعانت بها بعض الأبواق الاميركية، في الاحتجاج بحاجة الأوضاع العربية الى الإصلاح، والتذرع بتلك الحاجة لتسويغ التدخل الاميركي، الذي أرادت الادارة الاميركية ان تضفي عليه اهدافا رسالية تخفي مقاصدها الحقيقية الاستراتيجية والاقتصادية.

ورغم حفاوة الادارة الاميركية وتوظيفها لبعض معلومات التقريرين، الا انها لم تكن سعيدة تماما بكل ما جاء فيهما، خصوصا ما تضمنه التقرير الثاني من انتقاد للموقف الاميركي، لأن أحدا لا يستطيع ان يتجاهل في أي بحث موضوعي، ان الممارسات والسياسة الاميركية، تمثل احد مصادر أزمة العالم العربي. فماذا فعلت واشنطن لكي تعبر عن امتعاضها ازاء ذلك النقد؟

بعثت الادارة الاميركية برسالة غير مباشرة الى مسؤولي صندوق التنمية، من خلال خصم 12 مليون دولار من مساهمة الحكومة في ميزانيتها. وتذرعت في ذلك باعتبارات مالية، ولم تتضمن أية اشارة الى الاستياء أو الامتعاض، ومع ذلك فإن الرسالة وصلت، فيما فهم منها ان الخصم ليس سوى «شدة أذن»، ولفت نظر الى وجوب الحذر من توجيه أي نقد الى الولايات المتحدة.

ابتلع مسؤولو الصندوق الملحوظة، وكان عليهم ان ينجزوا التقرير الثالث عن «الحريات»، وطبقا للتقليد المتبع في كتابة التقارير، كان عليهم ان يقدموا في المدخل خلاصة للتطورات التي شهدتها الفترة الواقعة بين إصدار التقريرين الثاني والثالث، خصوصا من زاوية تأثيرها على التنمية الانسانية العربية. غير ان الشق الذي أزعج الادارة الاميركية وأثار غضبها، هو ما تعلق بتطورات البيئة الاقليمية والدولية. إذ تحت هذا العنوان ذكر التقرير انه «كان لاستمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ولاحتلال الولايات المتحدة للعراق، ولتصاعد وتائر الارهاب، آثار بالغة السوء على التنمية الانسانية العربية. وحيث تحتل الحرية محل الصدارة في مفهوم التنمية الانسانية، ويمتد مفهومها الى تحرر الأوطان، فإن الاحتلال يغتال الحرية، منظور حرية الوطن وحرية الشعب في تقرير المصير».

وفي تفصيل هذه الخلاصة تحدث التقرير عن استفحال الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، من خلال الممارسات التي أدانتها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، مارس (آذار) 2004، واعتبرتها «عدوانا وجريمة ضد الانسانية، وانتهاكا صارخا لحقوق الانسان».

في فترة التحليل، رصد التقرير اتجاهات أربعة لممارسات الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين هي:

* انتهاك حق الفلسطينيين في الحياة، حيث قتل الاسرائيليون بين شهري مايو (ايار) 2003، ويونيو (حزيران) 2004، 768 فلسطينيا وأصابوا 4064 آخرين.

* انتهاك الحقوق والحريات العامة والشخصية في جميع الأراضي الفلسطينية، وهو ما تجلى في أعمال العقاب الجماعي التي اتخذت أشكالا عديدة، منها الاعتقالات التعسفية والحبس والاغلاقات المتكررة للمناطق الفلسطينية، وحتى نهاية يونيو 2004، كان هناك 7400 فلسطيني رهن الحبس في السجون الاسرائيلية.

* تكبيد الفلسطينيين خسائر اجتماعية واقتصادية فادحة، إذ في دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة «كير»، تبين ان ثمة زيادة كبيرة في عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، كما كانت النساء الفلسطينيات الاكثر تضررا حيث ثبت ان 48% منهن يعانين من فقر الدم.

* الاستمرار في إنشاء الجدار العازل، الذي يعد سببا في تقويض أسس التنمية الانسانية، حيث واصلت إسرائيل تنفيذ مخططها، رغم ان محكمة العدل الدولية أدانت هذا التصرف وحكمت ببطلانه، ودعت الى تعويض المتضررين بسببه.

فيما يخص تداعيات احتلال العراق على التنمية الانسانية رصد التقرير اربعة امور، هي:

* غياب الأمن وانتهاك الحق في الحياة، حيث تدهور أمن المواطن العراقي في ظل الاحتلال واستبيحت حياته، فلم تتوقف عمليات قتل المدنيين العراقيين، بعد إعلان انتهاء العمليات العسكرية الكبرى في شهر مايو 2003، وسقط العدد الأكبر من القتلى الذين قدر عددهم بما يتراوح بين 12 و14 ألف قتيل على أيدي قوات الاحتلال.

* انتهاك حق العراقيين في الحرية، حيث تعرض الآلاف منهم للاعتقال منذ بداية الاحتلال، وتراوحت اعدادهم بين خمسة آلاف وثمانية آلاف معتقل.

* إساءة معاملة الاسرى والمعتقلين، وهو ما انفضح أمره مع نهاية شهر ابريل (نيسان) 2004، حيث نشرت وسائل الاعلام صور المعاملة المزرية والوحشية للمحتجزين المدنيين في سجن ابو غريب.

* إهدار بنيان الدولة العراقية، وهو ما لجأت إليه سلطة الاحتلال حين تغاضت عن نهب وتدمير المؤسسات الحكومية (باستثناءات اهمها وزارة النفط)، الامر الذي استصحب تدميرا للبنى التحتية، ونهبا لمختلف وثائق الدولة. وبعد إهدار كيان الدولة، فإن سلطات الاحتلال لم تنجح في إقامة كيان بديل جديد. وقد بين تقرير أميركي ان سلطات الاحتلال لم تنفق على اعادة الاعمار حتى يونيو 2004 سوى 333 مليون دولار من اصل 18.4 مليار دولار، تم تخصيصها لهذا الغرض، أي اقل من 2%.

هذا الكلام الذي لم يكن اكثر من شهادة أمينة على الحقيقة، ضاعف من غضب الادارة الاميركية، التي اعتبرت الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين والاحتلال الاميركي للعراق خطوطا حمراء، وأوضاعا فوق النقد ولها حصانتها الخاصة. وكانت النتيجة ان هددت الادارة الاميركية بحجب كل المساهمة التي تقدمها لصندوق التنمية، اذا ما صدر التقرير متضمنا تلك الشهادات. ومن ثم فإن «شدة الأذن» تحولت الى كسر للعظم، لأن قيمة تلك المساهمة تصل الى مائة مليون دولار، وحجبها يعني إيقاف مشروعات كثيرة في دول العالم الثالث.

فيما بدا فإن مسؤولي الصندوق وجدوا أنفسهم في موقف صعب، فلا هم أرادوا إحداث أي تغيير في التقرير الذي اكتمل إعداده، ولا هم احتملوا قطع المساهمة الاميركية في الميزانية، ولذلك اختاروا في الأغلب حلا وسطا، وهو ان يصدر التقرير عن مؤسسة عربية خاصة، ولا يحمل شعار صندوق التنمية ولا الامم المتحدة.

المدهش في الامر أن واشنطن لا تكف عن إعطائنا دروسا في التسامح والقبول بحق الاختلاف والشفافية، في حين انها في النموذج الذي نحن بصدده، استخدمت أسلوب القمع المباشر لحجب الحقيقة واغتيال الشفافية.

وإذا لم تكن هذه «فضيحة»... فماذا تسمى إذن...؟!