..وفي عام 2004.. سقطت الدولة العثمانية..!

TT

عندما يكتب المؤرخون عن عام 2004 الذي سيرحل عنا بعد أيام، سيكتشفون أن قرار القمة الأوروبية بفتح باب المفاوضات مع تركيا في الثالث من أكتوبر المقبل، من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لم يكن واحدا من أهم قرارات العام فقط، بل عنوانا على انتهاء مرحلة تاريخية كاملة، وبداية مرحلة أخرى. ويمكن هنا تعريف المراحل التاريخية الكبرى والعظمى، خاصة بالمدى الذي تعبر فيه تغيرات بنوية في حياة الناس، وفي تركيبة العالم، وعلاقات القوى فيه، وانقساماته وصراعاته المتعددة والمعقدة الأبعاد. ورغم أن الامبراطورية العثمانية قد انتهت منذ ثمانية عقود، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بفعل اليد الثقيلة لكمال أتاتورك والمؤسسة العسكرية التركية، ليس فقط من حيث الاتساع الجغرافي الامبراطوري، ولكن أيضا من حيث العمق الثقافي والحضاري الإسلامي، بالتحول نحو نوع من الأصولية العلمانية; إلا أن الامبراطورية العثمانية ظلت معنا كفكرة، معبرة عن كيان سياسي معبر عن العالم الإسلامى كله.

والحقيقة أن الفكرة أخذت تعبيرات شتى، فقد كان لها أولا تعبيرها المباشر، من خلال حركات إسلامية عديدة معتدلة وغير معتدلة، ظلت تنظر بأسف شديد على انهيار الامبراطورية العثمانية، وظلت طوال الوقت تحلم باستعادة دولة الخلافة مرة أخرى، وتضعه جزءا من برامجها السياسية. وكان لها ثانيا، تعبيرها غير المباشر، من خلال خلق شبكة من المنظمات الدولية الإسلامية، مثل منظمة المؤتمر الإسلامي وما تفرع عنه منظمات متعددة; ومن خلال مجموعة من الأفكار التي لا تجعل «الأمة الإسلامية» حالة جغرافية، وإنما حالة سياسية في المقام الأول، فطلع علينا الحديث عن «القنبلة الإسلامية» و«الطب الإسلامى» و«الزي الإسلامي».

ولكن أخطر ما جرى من تعبير، فقد جاء ثالثا، مع اشتداد دور المنظمات والحركات الأصولية الراديكالية الإسلاموية التي استولت على دول ـ أفغانستان وإيران والسودان ـ، ومن ورائها خلقت حركة عالمية لا تعرف حدودا ولا دولا، وتتحرك عبر العواصم والمطارات التي تربط «خلية هامبورج» في ألمانيا، بخلايا منتشرة في كوالالمبور ومانيللا وقاندهار والقاهرة والرياض ودبي، حتى حطت على نيويورك في أحداث الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة.

وببساطة فإن سقوط الامبراطورية العثمانية، وتمزيق أوصالها ونهايتها بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكن يعني سقوطا للفكرة ذاتها، بل إنها أخذت تعبيرات شتى جديدة، أخذتها مع الاتجاهات الراديكالية في اتجاه تحقيق انقسام عالمي، لا يقل عمقا عن ذلك الانقسام الذي حققته منذ قرون الامبراطورية العثمانية، عندما وقفت جيوشها على أسوار مدينة فيينا النمساوية في وسط أوروبا. وفي ذلك الوقت كانت الدنيا منقسمة بالفعل من خلال مركزها في أوروبا إلى عالمين، العالم الإسلامي، الذي كانت ممتدا على طول امتداد العالم العربي الآن وآسيا الوسطى وحتى منتصف أوروبا، وفي الغرب من ذلك كله، كانت توجد الدول الأوروبية المسيحية في مرحلة تكوين الدول القومية الحديثة، ومن ورائها ووراء المحيط الأطلنطي كانت المستعمرات، والولايات الأميركية آخذة في التبلور والتكوين، لتمثل في المستقبل العمق الحضارى والعلمي، وبالتأكيد الاستراتيجي للحضارة الغربية كلها.

لقد مضت الآن قرون على هذا الانقسام العالمي، ومضت عقود طويلة على انتهاء آخر تجلياته، فحتى تركيا مركز الامبراطورية، لم تغال فقط في أفكارها العلمانية، بل إنها التحقت بحلف الأطلنطي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تترك مجالا أو تحالفا غربيا إلا ودخلت فيه. ومع ذلك ظل الشرق شرق والغرب غرب، وظلت المرحلة المعبرة عن حالة الانقسام التاريخية كما هي، تعيد تشكيل نفسها وتركيبها في أشكال شتى، وتتفاعل بأشكال مختلفة، مع انقسامات عالمية جديدة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وبين الرأسمالية والاشتراكية، في زمن الحرب الباردة، وما بين العولمة ومحاربيها بعدها.

ورغم المعرفة بكل العقبات الواقفة على الطريق، فإن كل ذلك انتهى الآن، بعد أن بدأت عملية دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ليس فقط لأن مركز الفكرة «العثمانية» قد انتهى إلى الاندماج في طرف التقسيم الآخر، فقد حدث ذلك بأشكال شتى منذ وقت طويل، بل لأن نوعا من الخجل التركي، كان ملحوظا دوما من «العصر العثمانى»، ولكن لأن طريقا آخر للتعامل مع «الفكرة العثمانية» أصبح ممكنا. فقد كان الأصل في الفكرة ليس فقط في وجود امتداد امبراطورى خاص بالعالم الإسلامي، وإنما أيضا التعبير عن الانقسام والاختلاف، والصراع والمواجهة في أحيان كثيرة، مع العالم الآخر الغربي. فقد ظهر أن دخول تركيا ذات الغالبية الساحقة من المسلمين إلى الاتحاد الأوروبي، وربما في زمن ما مقبل، سوف يلحق بها ألبانيا والبوسنة ذات الأغلبيات الإسلامية، لن يعيد توحيد أوروبا فقط جغرافيا، وإنما سوف يخلق فكرة جديدة كلية تقوم على مجموعة من القيم الإنسانية، التي حولت الانقسام التاريخي إلى وحدة. فمن المعروف أن دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قد أعاد التفكير في أوروبا، إلى فكرة كونها ناديا مسيحيا خاصا، وهو ما كان استمرارا للانقسام التاريخي المعروف، ولكن النهاية وقفت إلى جانب نهاية الانقسام، فالقضية ليست أن تكون مسيحيا أو مسلما، وإنما القضية هي أن تنتمي إلى مجموعة من القيم الديمقراطية الليبرالية، القائمة على احترام حقوق الإنسان في الحياة والحرية والمساواة، وبعد ذلك فليول الإنسان وجهه إلى قبلة يرضاها.

ومن المدهش أن ذلك كله جرى تحت حكومة تركية ذات توجهات إسلامية، وحدث ذلك، ليس لأنها وضعت قبالة أعينها ما الذي يفرقها عن العالم الأوروبى، بل ما الذي يجعلها تلتقي وتتوحد معه. وحدث ذلك لأنها لم تعتبر القيم الديمقراطية العلمانية الليبرالية نتاجا للحضارة الأخرى، وإنما نتاج لنضال إنساني مشترك، شاركت فيه كل الحضارات. ومن المدهش، أكثر أن الفكرة العثمانية القديمة، وفي قمة عنفوانها، قد حملت المسلمين إلى أسوار فيينا، كقوة عنيفة مسلحة بصيحات الجهاد والفتح; أما الفكرة العثمانية الجديدة ـ إذا جاز التعبير ـ، فإنها حملت المسلمين إلى قلب بروكسل، حيث لا أسوار على الإطلاق، بل وإلى شواطئ المحيط الأطلنطي بصيحات الديمقراطية والحرية والمساواة. لقد انتهت الأولى إلى عداء لا نهاية له، وانتهت الثانية إلى وحدة تبدأ تاريخا جديدا، ومن هنا فسيندهش كثيرا من يعيش، ليرى ما سيحمله المستقبل..!