المغرب: ضحايا سنوات الجمر يتكلمون

TT

أثارت جلسات الاستماع إلى ضحايا انتهاكات حقوق الانسان في مغرب النصف الثاني من القرن العشرين، التي اختتم بها المغرب السياسي نهاية سنة 2004، أسئلة عديدة حول تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا. واعتبر كثير من الملاحظين أن الجلسات المذكورة، تساهم في ترسيخ وتقوية عمليات الاصلاح السياسي، التي بدأت منذ نهاية القرن الماضي، وذلك رغم مختلف أشكال التعثر والتأرجح، التي ما فتئت تشكل سمة من سمات المرحلة، محددة صعوبات الاصلاح ومخاضاته، مبرزة أن أسئلة التحول الديمقراطي ليست مجرد أسئلة بسيطة، وأنها تقتضي مواصلة المواجهة مع الجيوب المحافظة، التي ترى في معطيات التجربة الجارية ما يهدد مصالحها.

وقد لا نكون مبالغين إذا ماعتبرنا أن الحدث الأكبر سنة 2004 بمعايير التاريخ السياسي، يتمثل في جلسات الاستماع التي هيئت بهدف دعم مسلسل الإصلاح السياسي، وتحويله إلى أفق منفتح على مختلف أبعاد تجربة الصراع السياسي في المغرب المعاصر. فقد جسم الحدث المذكور بكثير من الكثافة الرمزية، جوانب مهمة من خلاصات تجارب حصل فيها كثير من العنف والقهر، وذلك بهدف تحصين الحاضر والمستقبل، من الأخطاء التي حصلت، وترتب عنها جملة من المآسي التي عطلت مسيرة التنمية والتطور في مجتمعنا.

تندرج جلسات الاستماع في سياق برنامج هيئة الانصاف والمصالحة الرامي، إلى تمكين الأجيال الجديدة في المغرب، من معرفة وقائع ومعطيات فظيعة، حصلت في بلادنا منذ بدايات الاستقلال وإلى حدود نهاية سنة 1999، سنة تأسيس الهيئة المشرفة على تنظيم ما يمكن إدراجه ضمن ملف العدالة الانتقالية في مغرب، يروم التصالح مع ذاته. جمع أعضاء الهيئة ما يزيد عن عشرين ألف ملف، وقرروا الاستماع إلى مائتي شهادة حية منها، تنقل مباشرة على قنوات الإذاعة والتلفزة المغربية، وقد نقلت فعلاً الجلسات الأولى والثانية في الرباط يومي الجمعة والسبت 23 و24 ديسمبر 2004، وستنقل باقي الجلسات من مدن البيضاء وخنيفرة والسمارة والحسيمة وفكيك والراشيدية وتطوان وطانطان وفاس، لتعكس انطلاقاً من هذه المدن صوراً من الانتهاكات الحقوقية، المتمثلة في الاختطاف والاعتقال والتعذيب والنفي والإخفاء والإعاقة والقتل.. والغرض من تنويع مكان الجلسات يتمثل في الاشارة إلى أن الأحداث المذكورة، شملت جغرافية المغرب كاملة، وينبغي أن تمنح هذه المدن فرصة المشاركة الرمزية في هذا الحدث، الذي يهم المغاربة قاطبة وبدون استثناء.

لم تكن لحظات الاستماع التي استغرقت كل واحدة منها ساعتين، وتدخل فيها ستة أشخاص من أعمار مختلفة، وتيارات سياسية مختلفة، ومدن عكست جهات متعددة في الجغرافية المغربية، لم تكن مجرد دقائق وثوان مترجمة لفضائح حصلت في زمن ما، بل إن المتحدثين قدموا معطيات وإشارات شخصت صوراً عديدة من معاناتهم، ومعاناة عائلاتهم وأقاربهم، حيث تمت الاستعادة الحية لمختلف الأهوال التي تعرضوا لها، حيث كانت تخترق أبسط الحقوق والقوانين، ويتعرض فيها الآدمي لأشكال من القسوة، والتجويع والتخويف بل والترهيب، وذلك دون أن نتحدث عن المحاكمات غير الشرعية، وعن مقرات التعذيب وأوضاع السجون، التي تحولت إلى مقابر مورست فيها بكثير من الغطرسة عمليات القتل البطيء..

قدمت أحاديث الضحايا عناصر جديدة مساعدة على إعادة كتابة تاريخ المغرب، كما قدمت معطيات مفيدة في مجال إعادة توزيع أشكال القمع ودرجاته في الجغرافية المغربية، والذين استمعوا إلى هذه الأحاديث، وعاشوا تجارب المحاكمات التي تحدث عنها المتحدثون، أدركوا الفروق الكبرى بين ما استمعوا إليه في أزمنة المحاكمات وسنوات الجمر، وبين ما قاله اليوم من كانت أفواههم مكممة، وأعينهم مغمضة وأرجلهم وأيديهم مقيدة بالاغلال.

فقد أصبح بإمكان ضحايا الأمس أن يقولوا في جلاديهم ما يرون أنه الوصف الأكثر مطابقة لما حدث، وأصبح بإمكان المعنيين بتاريخ الصراع السياسي في بلادنا، أن يحتكموا إلى شهادة الجناة وشهادات الضحايا، وذلك رغم المسافة الزمنية والنفسية والسياسية الحاصلة بين الشهادتين.. أما جغرافية الاستماع الجديدة فقد نقلت إلى المستمعين، كما قلنا، صوراً من أماكن من جهات المغرب المختلفة.. وقد تمت تسمية كثير من السجون وأقبية التعذيب، حيث وصفت دار المقري ودرب مولاي الشريف واغبيلة وتازمامارت وقلعة مكَونة والسجن المدني بمراكش والسجن العسكري بالقنيطرة، وهرمومو وعكاشة والسجن المدني بمكناس، وقد شخص أحد المتحدثين بكثير من القوة، بعض أمارات جحيم الاختطاف والتعذيب والقتل في تازمامارت، كما شخصت سيدة تحدث عن معاناة الأمهات اللواتي ربطت بينهن تجربة اعتقال ذويهم، مقدمة صوراً عديدة عن ألوان العذاب الذي لحق أهل الضحايا طيلة سنوات اعتقالهم.

تقدم المعطيات التي عرضنا إشارات عامة لما قدم في جلسات الاستماع الأولى، التي قدمت أمام جمهور من الفاعلين السياسيين، فقد شارك فيها بعض مستشاري الملك والوزراء والنواب، وبعض قادة ومناضلي الأحزاب السياسية، وبعض الفاعلين من أطر مؤسسات المجتمع المدني. إن أهمية ما حصل وسيحصل في سياق إكمال مسلسل الاستماع، حيث يفترض أن يعقد ما يقرب من ثلاثين جلسة لتقديم الضحايا، يتمثل في النقاش السياسي، الذي يفترض أن يشكل الامتداد الحي لما نحن بصدده، وذلك للمساهمة في إنجاز ما يسمح بجبر الضرر والخاطر، وإنصاف الضحايا بتجاوز مخلفات الماضي.

وإذا كان هناك من اعترض على مبدأ عدم ذكر أسماء الجلادين، أثناء وصف صور التنكيل والتعذيب والاختطاف، بحكم أن الهيئة المشرفة على العملية ليست هيئة قضائية، وأن بإمكان من يرغب في ذكر أسماء رجالات أزمنة الرصاص، أن يلجأ إلى القضاء باعتباره الإطار الملائم لهذا الموضوع، فإن أغلب الذين تحدثوا انطلقوا من اعتبار أن اللحظة الراهنة، تقدم فرصة مواتية لطي صفحة الماضي، وإنها تمكننا من إعادة قراءة أشكال الصراع السياسي في المغرب المعاصر، بهدف تأسيس أفق جديد في عملية الاصلاح السياسي الرامية إلى ترسيخ المشروع الديمقراطي.

وما يدعم هذا الموقف هو أن بعض التدخلات تجاوزت مبدأ الاكتفاء بمحاكمة الطغاة، الذين عاتوا في المجتمع ظلماً وفساداً، إلى مستوى محاكمة الذات أيضاً، حيث قدم البعض نقداً ذاتياً لتجربته وتجربة رفاقه في النضال السياسي، في فترة تشكل اليسار الماركسي في المغرب في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، ونتج عن هذا الموقف أفق جديد في التعامل مع هذه اللحظة، أفق لا يرهن غايتها بمحاكمة النظام السياسي وأجهزته القمعية، ولا بمزيد من المطالبة المادية بجبر الخواطر، بل بتأسيس تقاليد جديدة في العمل السياسي تتخلى تماماً عن الصور والأشكال التي صنعت التجافي من أجل تهيئة التربة المساعدة في عمليات التحول الديمقراطي، حيث يشكل التصالح مع الذات، الخطوة المركزية لبناء عقد اجتماعي سياسي، يشارك فيه الجميع، وذلك اقتداء بتجارب سياسية أخرى، حصلت في أمريكا الجنوبية وفي جنوب أوروبا.