رسائل «تسونامي» المسكوت عنها

TT

لا تختلف كارثة «تسونامي» التي قطفت أرواح عشرات الآلاف من البشر ، عما تتميز به الكوارث من غموض وإبهام. فأولى أسباب تكونِّ الكارثة ونشوئها هو توفر عنصر اللامعقول واللامتوقع ، وما هو فوق قدرة الإنسان، ذلك الكائن الأضعف من نفسه. وبالتدقيق قليلا وبقدر المستطاع في الجانب المبهم من كارثة «تسونامي»، ربما نمسك برسائل تتعدّى الجانب الواقعي ، المتمثل في القتلى وحجم الخسائر وشكلالمأساة الإنسانية.

ولعل أول صفعة تسددها كارثة المد البحري إلى الإنسانية جمعاء ، بدون تمييز أو تفاضلية جغرافية، تتمثل في أن معركة الإنسان مع الطبيعة مازالت مستمرة، وأن تعاقب جولات هذه المعركة تزيد في إظهار محدوديّة الإنسان وعجزه أمام القوّة الطبيعية، مهما أظهر من تقدّم علمي وتكنولوجي ، ومهما تباهى في لحظات اغترار واهية بأنه قهر الطبيعة ، وامتلك أمرها وخبأ مفاتيحها في جيبه.

إن شكل الصعقة الكهربائية التي اتخذتها كارثة «تسونامي»، تعبر عن خيبة يعيشها الإنسان الحالي في اللاوعي ، والتي حولت ثوابته إلى أوهام ، والمراتب العالية التي تسلقها إلى حضيض يتدحرج فوقه.

وقد تلعب هذه الكارثة من حيث تدري ، دور المنبه والداعية إلى إعادة التفكير في كثير من المبادئ ، التي انبنى عليها النموذج الغربي للعلم وللتقدم، لا سيما أنه نموذج ينكر القوى الفوق ـ طبيعية ، ويمحو عن العالم طابعه السحري والميتافيزيقي، ويبدد نظامه الرمزي بشكل جذري. فالكارثة وإن طالت العالم الثالث وبلدانا من المحيط الهندي ، فإن رسائلها تشمل كوكب الأرض والإنسانية قاطبة.

وفي خضم المتابعات الإخبارية للمد البحري الكارثي، تسرب خبر محتشم مفاده نجاة الحيوانات من أمواج «تسونامي»، حيث لم يعثر على جثة لفهد أو فيل ولا حتى أرنب. وفي هذا السياق ويا للمفارقة، وجد العلماء ضالتهم في التفسير الغيبي ، وبرروا ذلك بامتلاك الحيوانات لما يسمى بالحاسة السادسة ، التي طالما تمّ إنكارها ، وتمّ التعاطي معها كتعبير مجازي لا أكثر ولا أقل.

وهنا تحديدا تتراءى لنا حقيقة امتلاك الحيوانات لنظام إنذار طبيعي غريزي ، بينما الإنسان يفتقد إلى الغريزي، واختياراته تمنعه من اكتساب ما يفتقد إليه وتعويضه.

وفي واقع الحال ظهر الإنسان، الذي يمتلك امتياز العقل، أقل قيمة وحماية طبيعية من الحيوان. أي أن الإنسان الحالي لا هو حيوان يتمتع بعطف الطبيعة عليه وببوحها لأسرارها ، وما تنوي ارتكابه من كوارث له، ولا هو ذلك الإنسان الذي كرمه الله بالعقل ومنحه آلة التفكير والتدبر.

والغريب أنه بعد أن زهقت آلاف الأرواح ، وتيتمت عشرات الآلاف من الأفئدة والنفوس، انتبهت الدول الغنية إلى غياب نظام إنذار عالمي يدق ناقوس الخطر، ورأت ضرورة دمقرطة نظام الإنذار ، ليشمل المتوسط والمحيط الهندي كما هو حال المحيط الهادئ ، الذي يمتلك نظام إنذار تشارك فيه 26 دولة. وربما من دواعي التفكير في عولمة نظام الإنذار ، ذلك العدد الهائل من السياح الأجانب من الألمان والفرنسيين والسويديين والأمريكان.

أما ما يزيد أمواج «تسونامي» علوا وتأثيرا كارثيا وهيجانا ، فهو ذلك المبلغ البائس الذي تصدقت به الدول الغنية، والذي لا يتجاوز في جملته المليارين، وكان سيكون أقل من ذلك لولا تدارك الولايات المتحدة أمرها، ومضاعفة حجم مساعدتها سبع مرات. ويلفت النظر عما إذا كان ذلك التراجع يتعلق بتزويق صورتها وتسجيل حضور لافت، فإن الرقم المعلن عنه يمثل مليمات ، مقارنة بالأموال التي أغدقتها في الحرب على الإرهاب ، أو مبلغ 80 ألف مليار الذي طلبته كميزانية للحرب في العراق لهذه السنة. ولنا أن نقارن في صمت وبكل غيظ بين مليارين لمدن دفنت وبيوت ابتلعت ولأطفال ونساء يعانون الاستغلال والتشرد، وبين 80 ألف مليار في حرب أقل ما يمكن أن يقال في شأنها ، إنه توجد اختلافات حول نواياها وأهدافها، وإنه مشكوك في مصداقيتها، إضافة إلى أنها تمت بدون قرار أممي.

وهي مسألة في الحقيقة لا تخص أمريكا فقط ، بل كثيرا من الدول الغنية وحتى الفقيرة التي تتسابق حول التسلح والقنبلة الأكثر حصادا للأرواح، في حين يظهر شحهم عاريا ومفضوحا في لحظات الجد.

وإني لأستغرب من حديث البعض عن حالة التضامن العالمي ، وعن إيجابيات العولمة في لحظة الفضيحة ذاتها. ألم يكن بوسع العولمة أن تحقق إيجابياتها بالتبرع بنظام إنذار في المحيط الهندي، أم أن الإيجابية تتمثل في الوعد بمليارين لا أحد يعلم كم سيصل منهما. ذلك أنه بعد تتالي الكوارث ، بات واضحا أن ما يعلن عنه في المرحلة الأولى لما بعد الكارثة، أي مرحلة البطولة، ليس حقيقة كاملة، بدليل أن المليار الذي وُعدت به إيران إثر زلزالها الأليم ، لم يصلها منه إلى حد الآن سوى 17%. أما حالات التضامن الشعبي للمجتمعات المختلفة، فهي تندرج في خانة ردود الفعل التلقائية والعفوية التي تحرّكها الانفعالات ولا تصدر عن قرارات رسمية والتي حبذا لو صدر ما يماثلها من المجتمعات العربية والاسلامية، فكما تحتاج الحروب والغزوات إلى تراخيص برلمانية وموافقة عالية الموقع ، وتحمل إمضاء القمّة ، فإنّ إنقاذ البشرية والدفاع عن الحياة وإعادة إنتاجها ، تحتاج أيضا إلى قرارات رسميّة ، لا صدقات غير ملزمة التلبية.

إذاً فلنقارن بين عدد القتلى الهائل وحالة الموت الرهيبة التي خلفتها كارثة آسيا ، وبين تلك الرسائل المسكوت عنها، فربما نجتمع حول استنتاج واحد ، مفاده أن كوارث الإنسان، الغني والقوي ، أشد قسوة وشراسة من جبروت الطبيعة، وأكثر كشفا للواقعية الأليمة.

[email protected]