زلزال آسيا: أكثر من حدث.. في أكثر من اتجاه

TT

فاجأتنا الكوارث الطبيعية التي جرت في جنوب شرق آسيا بحجمها وهولها وضخامتها. فالمآسي البشرية الناتجة عنها لم يسبق لها مثيل على ما يبدو وقد عدنا بالذاكرة طويلاً إلى الوراء لكي نجد لها سوابق تشبهها فلم نجد على كثرة الكوارث التي منيت بها البشرية على مدار تاريخها الطويل. وحدها كارثة ليشبونة التي جرت عام 1755 والتي أدت إلى انتشار الحرائق في المدينة بعد الزلزال وتدميرها بأكملها، يمكن ان تقارن بها. ومعلوم ان هذه الحادثة أدت إلى اندلاع مجادلات فكرية عميقة بين فلاسفة التنوير وبالأخص بين فولتير وروسو. فالأول وجدها مناسبة لتصفية حساباته مع الفيلسوف الألماني لاينبتز ونظريته المتفائلة عن التاريخ. ومعلوم ان لاينبتز (1646 ـ 1716) كان يقول بأن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة وانه خلق على افضل وجه على الرغم من كل شيء. وقد استغل فولتير زلزال ليشبونة المريع لكي يسخر من هذه النظرة المتفائلة للتاريخ ولكي يفندها تفنيداً من خلال روايته الساخرة «كانديد».

وقد رد عليه جان جاك روسو محذراً إياه من التشكيك بالعناية الإلهية بسبب هذه الحادثة ومدافعاً عن نظرة لاينبتز للعالم والكون.

ثم تطور العلم كثيرا بعد عصر التنوير، أي بعد القرن الثامن عشر، وانقذ الانسان من كوارث عديدة وجعله يسيطر على الطبيعة عن طريق التكنولوجيا والآلات الحديثة العملاقة. ولم يعد الانسان يخشى الطبيعة بعد ان اصبح مالكاً لها وسيداً عليها كما تنبأ ديكارت في مشروعه الشهير. ومعلوم انه بنى كل آماله على تقدم العلم، ولم يكن مخطئاً في ذلك.

ولكن الشيء الذي أخطأ فيه فلاسفة التنوير على أثر كبيرهم ديكارت هو اعتقادهم بأن العلم قادر على كل شيء، فالواقع انه ثبت لنا بالتجربة العملية ان العلم، مهما تقدم، غير قادر على التنبؤ بالكوارث الطبيعية قبل حصولها. لا ريب في انه يستطيع ترجيح حصول شيء ما في هذه المنطقة أو غيرها من مناطق العالم. لكنه لا يستطيع ان يحدد لنا مكان وزمان وكثافة الحدث بدقة. كل علم الرياضيات والعلم الجيوفيزيائي الحديث وعلم الصفائح المعدنية يؤكد لنا ذلك.

وهذه المعلومات لا آتي بها من عندي، فأنا لست عالما بهذه الاشياء.. وانما انقلها حرفياً عن الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير الاستاذ في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة وعضو الأكاديمية الفرنسية وصاحب الكتب الشهيرة الموثوقة. وهو من الفلاسفة القلائل الملمين بنظريات العلم الحديث، وذلك على عكس دريدا، أو سواه من الفلاسفة التجريديين ذوي التكوين الأدبي لا العلمي. والغريب العجيب هو ان هذا الفيلسوف الذي ينتمي إلى جيل فوكو وديلون ودريدا وجان فرانسوا ليوتار وبيير بورديو غير معروف في العالم العربي على الرغم من انه اهم من معظم هؤلاء. وهو على اي حال آخر من تبقى من هذا الجيل، فجميعهم ماتوا ما عداه. وقد شارف الآن على الثمانين ولكنه لا يزال ناشطا وينشر الكتب والابحاث الواحد بعد الآخر.. وربما كان احد الفلاسفة القلائل الذين يمتلكون نظرة كونية واسعة عن العالم والتاريخ.

يرى هذا الفيلسوف ان كارثة جنوب شرق آسيا كشفت لنا عن شيء اساسي لا يقدر بثمن ألا وهو: تشكل الضمير العالمي أو الرأي العام العالمي. ففي عصر التنوير اي قبل مائتي سنة، ما كان الناس يسمعون بالحدث إلا بعد مرور عدة اسابيع او حتى عدة اشهر على حصوله. واما الآن فإن قارات العالم الخمس شاهدت كارثة جنوب شرق آسيا في وقت واحد، وفي اثناء حصولها وقد تابعت ذلك ساعة بساعة بفضل وسائل الاعلام والفضائيات التلفزيونية او التقنيات الجديدة للمعلومات والاتصالات (اي الإنترنت اساسا).

ولذا، وفي الساعات الاولى التي تلت الحادث راحت تتشكل اكبر عملية انقاذ بشرية في التاريخ وراحت كل الجمعيات الخيرية والمؤسسات الانسانية تعبئ طاقاتها وتحشد مواردها للرد على الكارثة. وراحت العطايا والهبات تتوافد على المنطقة المنكوبة من شتى انحاء العالم. بمعنى آخر فان التضامن العالمي ليس كلمة فارغة ولا مجانية على عكس ما كان يتوهم فولتير، وادانته للتفاؤل لم يعد لها من مبرر وجود. فالبشرية ليست حمقاء والعالم ليس سيئاً الى الحد الذي كان يتصوره.

ثم يتابع الفيلسوف ميشيل سير كلامه قائلا: البشرية كلها تعيش على مركب واحد فإما ان نغرق جميعا وإما ان ننجو جميعا. وهذا الوعي بالمصير المشترك للبشرية على اختلاف اجناسها ولغاتها وعقائدها هو الذي يشكل شيئا جديدا بالقياس الى العصور السابقة، وهو الذي يدفعنا الى التفاؤل في بداية هذا العام الجديد على الرغم من ضخامة الكارثة ووحشيتها.

فقد كنا نعتقد ان الهويات المتناحرة والاصوليات المشتعلة وصدام الحضارات، كل ذلك سوف يمنع الناس من التضامن مع بعضهم البعض او الاحساس بآلام الآخرين. ولكن يبدو اننا كنا متشائمين بالطبيعة الانسانية اكثر مما ينبغي، فالشعوب الاوروبية والاميركية الشمالية تبدو بعيدة جدا عن منطقة الحادث. وكان بامكانها ان تظل مكتوفة الايدي تراقب الامور على شاشات التلفزيون وكأنها لا تعنيها، ولكن الذي حصل هو العكس تماما.

وليس المهم هنا بالدرجة الاولى هو تحرك الحكومات وارسالها للمساعدات العاجلة وتشكيل الرئيس بوش للتحالف الانساني العالمي ضد الكارثة، او تحرك الحكومة البريطانية وارسالها مساعدات ضخمة بسبب علاقاتها التاريخية بالبلدان المنكوبة. لا ريب في ان ذلك مهم وضروري بقدر ما هو مهم تحرك الامم المتحدة. ولكن الاهم من ذلك كله هو كما قلنا، تشكل ضمير عالمي كوني يحرك الشعوب والرأي العام ويجعل ابعد الناس يحسون بآلام اقرب الناس. الاهم من ذلك هو سقوط نظرية صدام الحضارات بين الشمال والجنوب، بين الاغنياء والفقراء، بين الغرب وبقية انحاء العالم. واكبر دليل على الفرق بين حالة العالم اليوم وحالته بالامس هو التالي: عندما حصل زلزال ضخم دمر مدينة طوكيو او قسما كبيرا منها واشعل حرائق ضخمة فيها كان الشاعر بول كلوديل هو الاوروبي الوحيد الذي يبكي مع اليابانيين. واما الآن فقد اصبحت شعوب الغرب كلها تتعاطف مع منكوبي جنوب شرق آسيا.