العراق.. مخاطر هذا المرض الطائفي

TT

المتابع لمجريات الساحة الإسلامية الواسعة، والعراقية منها على وجه الخصوص، يلحظ تنامي نفس طائفي بغيض، تضافرت عوامل كثيرة، وقوى متنوعة على إشعال فتيله ومده بالوقود اللاهب، من ذلك سياسة المحاصصة الطائفية التي خضعت لها تركيبة مجلس الحكم الانتقالي، ثم الحكومة المؤقتة التي أقامتها سلطة الاحتلال الامريكي بعد دخول العراق (المسماة تجاوزا بالقوات المتعددة الجنسيات)، كما أن حالة الانقسام السياسي الذي يشق الساحة العراقية سواء إزاء موضوع الاحتلال وأشكال التعاطي معه، أو مسألة الانتخابات وما شهدته، وتشهده راهنا، من استقطاب، إلى جانب ظهور جماعات قتالية ذات نزوعات تكفيرية وطائفية سنية، كلها قد ساهمت بأشكال متفاوتة في توسيع دائرة التنازع الطائفي السني الشيعي. ومما عزز الشعور بمثل هذا الانقسام، دخول المرجعية الشيعية بثقلها المذهبي لدعم الانتخابات المزمع إجراؤها أواخر هذا الشهر في ظل أوضاع الاحتلال، بما يوحي برغبة شيعية خاصة في تعزيز مكاسب طائفية ضيقة، على حساب الرؤية الوطنية الأشمل، مقابل إحجام هيئة علماء المسلمين، الجهة الدينية الأكثر تمثيلية في الساحة السنية العراقية، عن المشاركة في هذه الانتخابات مع الدعوة إلى مقاطعتها، ولكن مع كل ذلك يبدو لي من التعميم والجناية على الواقع تصوير المشهد السياسي العراقي، وكأنه خنادق طائفية ومذهبية متقابلة، لا يجمع بينها شيء غير خطوط الاحتكاك والتحارب المذهبي الملتهبة، ودليل ذلك أن خياري المشاركة والمقاطعة قد شقا الساحة السنية والشيعية، بل الساحة الوطنية العراقية على السواء، فالحزب الإسلامي مثلا الذي يعد أهم التعبيرات السياسية السنية كان قد تقدم بقائمته الموسعة للمشاركة في الانتخابات التشريعية، ثم أعلن سحبها فيما بعد، ورغم أن هذا الحزب بمنحدراته السنية قد انسحب من الانتخابات، إلا أنه لم يبرر ذلك باعتبارات تمس مبدأ المشاركة في حد ذاته، بقدر ما تعلق الأمر بمسائل اجرائية من قبيل مشكلة التفلت الأمني، وعدم الثقة في نزاهة العملية الانتخابية، ولذلك لم يجازف بالمطالبة بمقاطعة الانتخابات رغم إعلان انسحابه منها، أما على الجهة الأخرى فقد امتنع التيار الصدري المعروف بثقله الشعبي المحسوس في الساحة الشيعية، عن المشاركة في هذه الانتخابات، في ظل وجود الاحتلال الأجنبي، مع التمنع عن الدعوة الجهيرة للمقاطعة خشية الصدام مع المرجعية الدينية للسيستاني، وما يترتب عن ذلك من فقدان الغطاء الديني للمرجعية، والذي هو في أمس الحاجة إليه، ولا ننسى هنا، كما أن تيار المشاركة قد جمع لفيفا غير متجانس من القوى السياسية والمذهبية والدينية، فكذلك هو الأمر بالنسبة لتيار المقاطعة، بما يجعل من الإجحاف الحديث عن مواقع مذهبية متجانسة وموحدة على الجبهتين.

ولكن مع ما سبق بيانه، فإن هذا الوجه الطائفي الذي طفا على السطح السياسي منذ محنة الاحتلال، لا يجب أن يحجب عنا الوجه الآخر من المشهد، وهو وجود قوى وشخصيات كثيرة لم تفقد صوابها، فحافظت على سلامة الموقف الوطني ونزاهة الخط العربي والإسلامي الجامع، أي أدركت بحاستها السليمة أولوية الأمة والوطن على المذهب والطائفة، بما جعلها تتعالى على الجراحات الشخصية أو الطائفية لتنظر للصورة في عمومها وشمولها، وهي كون العراق قد ابتلي باحتلال أجنبي له مراميه الواسعة التي تطال كل العراقيين، وتمس مصير المنطقة وشعوبها في الصميم، الأمر الذي لا يترك فسحة للحسابات الطائفية أو الإثنية، أو حتى الدينية الضيقة، وإزاء ذلك لا يهم كثيرا أن يكون الحكم شيعيا أو سنيا، عربيا أو كرديا، بل المهم قبل ذلك وبعده، أن يكون العراق معافى من مرض الاحتلال الأجنبي، وأن يستعيد دوره الريادي الذي انتدبه التاريخ وواقع الجغرافيا للقيام به.

ثمة جملة من العناصر لا بد من أخذها بعين الاعتبار عند التعامل مع المسألة الطائفية، سواء في العراق أو في الساحة الإسلامية الأوسع من ذلك:

أولا: إن الانتماء المذهبي، كما هو شأن الانتماء القبلي أو الإثني أو الديني يمكن أن يكون حلقة مهمة من حلقات الهوية التي تخرج الإنسان من نطاق الفردية المنعزلة، وتمده بمعاني الانتماء الواسع وتشعره بدفء الجماعة الأهلية، ولكنه قد يتحول إلى طاقة مدمرة للحمة الاجتماعية ومعاني الهوية الجامعة، إذا ما اقترن بالتعصب وضيق الأفق اللذين يتغذيان بدورهما من ثقافة الاستبعاد، ولنا شواهد كثيرة مستمدة سواء من سوابق التاريخ او حاضره، كما لنا دلالات مستمدة من أوضاعنا، وفيما يجري من أحوال العالم الفسيح من حولنا التي لعبت فيها عوامل الطائفة والدين والعرق دور المعذي للحروب والصراعات المدمرة. حقيقة ان المرء ليقشعر بدنه برؤية تلك المشاهد المفزعة للقتل المتبادل في المساجد ودور العبادة بين قوى سنية وشيعية متعصبة في الباكستان، كما ترتعد فرائصه برؤية مشاهد الاغتيال أو القتل المتبادل التي تغذيها قوى التعصب الديني والطائفي في أرض العراق، وكأن قوى الجهالة عندنا تريد أن تجعل من الدين عامل تفتيت ومنازعات، بدل أن يكون عامل وحدة وانسجام كما كان دوره على امتداد تاريخ الإسلام.

ثانيا: كثيرا ما تستدعي السياسة بتشابكاتها وتعقيداتها موارد الطائفة أو الدين لخدمة أهدافها وحساباتها، بل كثيرا ما تصبح الطائفة ملاذا آمنا لتحقيق الطموحات الشخصية، فتتغلف غريزة حب الرئاسة التي حدثنا عنها ابن خلدون، بمقولة الذود عن الطائفة أو المذهب. الكل يعلم أن ثمة قوى سياسية شيعية في العراق لم تجد حرجا في امتطاء القاطرة الامريكية، بحجة تخليص العراق من «الهيمنة السنية» والدفاع عن الأغلبية الشيعية المضطهدة، كما أن ثمة قوى سياسية سنية لم تتورع عن وضع نفسها بوعي أو بغير وعي، تحت مظلة المشروع الأمريكي بذريعة التخفيف من أضرار «الهيمنة» الشيعية على المشهد السياسي العراقي، ومن عجائب الأمور أن يتحول بعض الأشخاص الذين عرفوا بتوجهاتهم الليبرالية أو اليسارية فجأة، وبغير سابق إنذار إلى الاحتماء بالطائفة.. وهكذا أضحى بريمر ومن بعده خليفته نجروبنتي الغطاء الساتر الذي يستظل به الجميع لحماية مواقعهم الطائفية، أو بالأحرى مصالحهم وطموحاتهم السياسية الشخصية المتوارية خلف مقولة خدمة المذهب، ويزداد الأمر خطورة حينما يتحول التاريخ السياسي المشترك إلى عامل شرذمة وتقسيم، بدل أن يكون عاملا مغذيا لعوامل الوحدة، كأن تصبح ثورة العشرين مثلا عنوانا على التضحية الشيعية، مقابل الغنيمة السنية، وكأن لسان حال هؤلاء يقول إن مطلب تحرير العراق من الاحتلال الانجليزي، وتقديم التضحيات في سبيل ذلك، كان خطيئة كبرى يجب التداوي منها بالتعاون مع الاحتلال الجديد، عسى عقارب الساعة تعود إلى ما كانت عليه قبل ثورة العشرين.

ثالثا: لا أحد يطالب بإلغاء الانتماءات المذهبية والطائفية، ما دامت موجودة على الأرض وتفعل فعلها في وعي الناس وتحرك مشاعرهم العامة، إذ ليس من حقنا أن نلوم السني على سنيته، أو الشيعي على شيعيته، أو المسيحي على مسيحيته، ولكن أن تتحول الطائفة أو الدين نفسه، إلى أسيجة فولاذية مغلقة، فهذا ما يبعث على القلق والضجر.

وإذا كان الناس غالبا يحيون ويموتون من دون أن يطرحوا غالبا سؤال الهوية المقلق، بحكم غلبة سلطان الالفة والعادة، إلا أنه يفترض أن في القيادات الدينية الرشيدة وأهل الوجاهة الفكرية والسياسية قدرا من التعالي عن دوائر الانتساب الضيقة وإرجاع الأمور لنصابها الطبيعي، وهو أولوية الأمة الجامعة على المذهب، وأولوية الوطن على الطائفة، وإن كانت هناك أخطاء أو مظالم ارتكبت بحق هذه الطائفة أو تلك، فلا يجب أن يعالج ذلك بارتكاب آثام أشد، وليس هنالك إثم أعظم من التعاون مع الاحتلال الأجنبي.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية ببريطانيا