إطلالة على تلك السلطنة

TT

السفارة الامريكية في لندن قلعة حصينة، وراء متاريس وحراسة مسلحة، وشوارع مسدودة في جروفنر سكوير، مما دعى سكان الحي للمطالبة بنقلها، ولكن ذات المشهد يناقض هدوء شقيقتها في العاصمة العمانية مسقط، فهذه في فيلا انيقة، لاتختلف عن بقية السفارات، بين اشجار النخيل، وجوز الهند، والليمون.

ثلاثة عقود فصلت بين زيارتي الأولى لتغطية تمرد ظفار، وبين عمان القرن الواحد والعشرين، حيث لا تفوق على التطور الحضاري والاقتصادي، الا الاستثمار في الإنسان، والذي انعكس في استقرار اصبح موضع حسد الكثيرين. «فلتحمدوا الله على غيابي عنكم». كانت تلك هي إجابتي على معاتبة الأصدقاء العمانيين على استثناء بلادهم من ترددي على بلدان المنطقة، لتغطية المتاعب والحروب والإرهاب، وقلت: «فبلادكم واحة من الهدوء والاستقرار. ولا يعود ذلك لقدرات سحرية او امن مشدد، بقدر ما هو مزيج من تجربة العمانيين التاريخية، وغياب مسببات القلاقل، والتعامل بحكمة مع الأزمات ـ اقتصادية واجتماعية واقليمية ـ، والتي عادة ما تفجر عنفا او حركات أرهابية عند غيرهم. برامج التنمية التي بدأت منذ السبعينات، يقطف الكثيرون ثمارها، رغم نموها ببطئ، ولكن باضطراد مستمر. العمانيون، بعد تجارب مرارة الصراع الداخلي، أكثر نضجا من أي شعب آخر في المنطقة». ويقول رجل اعمال عماني، كان في شبابه من ثوار ظفار، «ثورة الجبل ألأخضر في الخمسينات، ثم التطور الى الثورة في ظفار، والتي كانت لها ابعاد اقليمية وأممية، خلقت اليوم وعيا مشتركا لدى المواطنين والمسؤولين، بعبث وسلبية العمل المسلح والتمرد، او باستخدام القوة لأخضاع الآخرين». ويضيف: نجحت مرونة وحكمة الزعامة السياسية للبلاد في المصالحة الوطنية وتوجيه الطاقات نحو تقدم الأمة. وباستثناء يوم الخميس، عندما تصدرت اخبار ترأس السلطان قابوس جلسة المجلس الوزاري، وقبوله اوراق اعتماد سبعة من السفراء، خلت الصحف من صوره طوال الأسبوع، حتى في اليوم الذي وقع فيه اربعة تشريعات جديدة ـ عملا بتوصيات من مجلس الشورى المنتخب». فصوره تنشر فقط عندما يتطلب الخبر ذلك بحسب صحافي عماني. وبعكس ما هو سائد في المنطقة، لا يطل قابوس على الشعب من ملصقات ضخمة في الشوارع، فهو زعيم يفضل العمل على رنين الخطابة. يشعر معظم العمانيين من الوزير حتى سائق التاكسي، بالفخر الشديد في اداء عملهم، خاصة انهم يعملون في كل المجالات، بما في ذلك مهن لا يقربها خليجيون آخرون بل يتركوها للأجانب. مسقط، تكرر اختيارها كأنظف مدن الشرق الأوسط، وأكثرها زينة واناقة. وتتفاخر رحيلة الريامي، عضو مجلس الشورى عن العاصمة في حديثها، عن استجابة مدير البلدية الفورية لشكاوى تتلقاها من الناخبين، الذين تمثلهم في الدورة الحالية (2003 ـ2007)، وهي احد عضوين في المجلس المكون من 83، انتخبتهم عمان (مقعد للدائرة الأقل من 30 الفا، ومقعدان اذا زاد العدد عن ذلك)،عام 2003، بتصويت 62% من 262 الفا (بينهم مائة الف امرأة) من الناخبين المقيديين. وبالمناسبة، نسب المصوتين في ديمقراطيات اوروبا العريقة تتراوح حول الثلث فقط. بدأ المجلس عام 1981 بتعيين 42 عضوا - منهم امرأة. وبالانتخاب لـ59 مقعدا في 1991 بزيادة اعداد سكان بعض الدوائر عن 30 الفا. لم تصوت المرأة الا بمرسوم سلطاني في 1997. وترى الريامي، وغيرها، كوزيرة السياحة، وعضوات مجلس الدولة (مجلس اعيان استشاري بالتعيين) ـ او مهنيات ـ، ان التنمية بالتدرج الهادئ، اقنعت المجتمع المحافظ بقبول مشاركة المرأة. اختار عشرة رجال في لجنة التعليم في المجلس، الريامي رئيسة لهم، لخبرتها الطويلة في هذا المجال، بما في ذلك رجلي دين، ويجئ ذلك كاجابة على ما اذا كانت المؤسسة الدينية قد قبلت مشاركة المرأة؟ او تحاول توجيه مناهج التعليم؟ ويجيب سعيد المسكري، سكرتير عام مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية، وهو رجل هادئ الطباع، على درجة عالية من الثقافة، مؤرخ بحكم دراسته الجامعية في عين شمس، الا انه مسؤول عن تطوير مناهج تعليم المعاهد والمدارس التابعة لمركز الثقافة الإسلامية، وهي تختلف عن مدارس وزارة التعليم، يجيب قائلا: «لاتوجد لدينا مؤسسة دينية بالشكل الموجود في بلدان اخرى، وليس عندنا تسييس للمذاهب، فالشعائر واحدة والنصوص واحدة، لذا يصلي ألاباضي والحنفي والشيعي جنبا الى جنب في المسجد نفسه.

والى ذلك فمسجد السلطان قابوس تحفة معمارية في البناء والتصميم وفنون الحفر، مكتبته تضم عشرات الالاف من المخطوطات والكتب، الى جانب عشرات من اجهز الكومبيوتر الموصلة بالإنترنت. ويضيف المسكري: «منهج التعليم في مدارسنا لا يقتصر على تعليم الفقه والدراسات الإسلامية، وانما يشمل اللغات المتعددة والأدب والجغرافية والاقتصاد، وحتى العلوم، فيما أضيفت دراسة الكومبيوتر الى المواد الألزامية، كالإسلاميات واللغة العربية، مع مواد مثل المدارس العامة، فيما يمثل البحث العلمي كمادة اساسية ثلث الدرجة والباقي للامتحان. ويتكرر تعبير «البحث العلمي والدراسات» في الحوار مع العمانيين، سواء من اعضاء الشورى او وزيرة السياحة راجحة بنت عبد الأمير، المشغولة بدراسات عن مشاريع ضخمة لجذب السائح ذا ت النوعية المتميزة، لاستكشاف الأرث التاريخي والطبيعة العمانية الساحرة. وتصل جبال عمان الشاهقة، التي اوحت للأقدمين بأدبيات رحلات سندباد، والتعامل مع الجن والمردة عند مواجهة البحارة، تصل البحر بالسماء في اساطير الف ليلة وليلة. وقد اسفرت الدراسات عن تشريع جديد لا يشترط الجنسية العمانية في تملك الأرض والعقار لأي مستثمر، في مناطق حددها القانون بـ«السياحية». وتشكل الدراسات ركنا اساسيا في تركيبة ونشاط وزارة البيئة وموارد المياه والبلديات الأقليمية.

«لاتتعب نفسك بالكتابة، دعنا نتحدث في البيئة، فما تريده في هذا الدوسيه»، قالها وزير البيئة الشيخ عبد الله الرواس، وهو رجل بالغ الحفاوة والترحيب، والأناقة الرسمية، وفتح الدوسيه الذي يحتوي على معلومات مدونة، (وفلوبي ديسك، وقرص مدموغ)، عن ارقام وتنوع دراسات المياه واستهلاكها، كاستجابة لبريد الكتروني ارسلته قبل يومين، ولمعرفة مستشاريه بكتابي Water Wars الصادر عام 1993. والى ذلك فالعجز المائي لعمان يبلغ 378 مليون متر مكعب سنويا، «القوانين الجديدة، تتجه الى تقليل الزراعة غير ذات الجدوى الاقتصادية لأنها تستهلك 93% من المياه، في حين يفضل الشيخ الرواس «ابقاء المياه الجوفية كأحتياطي استراتيجي للطوارئ، والاعتماد في الاستهلاك اللاإنساني والصناعي على التحلية واعادة التكرير. وتلك قوانين تتميز بالجرأة والشجاعة الواقعية، فاسباب تقليل الزراعة اقتصادية تماما، ولاعلاقة لها بالسياسة في عمان الحديثة. فلاقتصاد لتحسين احوال الفقراء، حسب قول رجل اعمال عماني يعترف بواقعية الفارق الكبير في الدخول بين الطبقات الوسطى والفقيرة، وأن العلاج يتم ببطء شديد، لكن المحصلة هي تحسين الأحوال باستمرار، وهو ما يجعله يستبعد تفجر الوضع في احتجاجات عنف، خاصة ان الكل ينتظر دوره، في حين لا تبالغ الحكومة في الوعود بشعارات دعائية في الإعلام.

في تطور آخر وجدت نفسي أقاوم نداءات المطالبين بإنشاء قناة تلفزيونية جديدة، لعدم جدواها اقتصاديا، «هز حمد الراشدي، وزير الأعلام العماني كتفيه مضيفا بأن المشاهد، في عصر ازدحام غرفة جلوسه بالفضائيات، يتسم بالولاء لبرنامج مفضل او نشرة اخبار مفضلة، وليس لقناة او محطة بعينها، فلماذا اضيع ميزانية تكفي لشق طريق او بناء عنبر في مستشفى، في انتاج مسلسل تلفزيوني، اذا كان بامكاني شراء هذا المسلسل بتكلفة اقل من مركز انتاج؟ «فالاقتصاد والإعلام، وليس البروباجندا، هما وراء التخطيط الواقعي للراشدي صاحب الخبرة الطويلة في المجال الصحافي، ولذا فمهمته هي التسهيلات للصحافيين، دون التدخل في شؤونهم واثارة غضبهم بفرض الرقابة. ويرفض كغيره من العمانيين استخدام كلمة الإصلاح عندما تناقشهم في مشروع الشرق الأوسط الكبير والدعوة للإصلاح.

ويقول: «هذا يعني وجود عطب او شيء مكسور او به خلل تريد اصلاحه»، يقول العمانيون، ان عجلة النمو والتنمية لم تتوقف منذ ثلاثة عقود، «لم ينكسر خلالها ما يستحق الذكر والحمد لله». وأخيرا، فمن رأي دبلوماسيين غربيين في مسقط، أن التوفيق قد خان من استخدموا تعبير «الدعوة للإصلاح»، إذ أن الدعوة للتنمية والتوسع في التطور أكثر توفيقا للاستخدام في ادبيات مشروع الشرق الأوسط الكبير، خاصة حين يتعلق الأمر بسلطنة عمان من وجهة نظرهم.