نهاية مرحلة «الثورة».. وبداية مرحلة «الدولة»..!

TT

كان ذهاب الفلسطينيين إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي، واختيار محمود عباس (أبو مازن) رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، بمثابة التصويت لعملية السلام. فمرشح «فتح» مرشح لعملية السلام في الوقت ذاته، فهذا القائد الفلسطيني معروف عنه أنه كان قد توصل إلى قناعة مسبقة بأن الحروب والمواجهات المسلحة مع إسرائيل لم تعد مجدية في ظل الواقع العربي المستجد، والمعادلات الدولية الجديدة، وأنه لا بد من طرق أبواب أخرى غير هذا الباب، وفي مقدمة هذه الأبواب باب التفاوض مع الإسرائيليين، والتوصل إلى حل مقبول للقضية الفلسطينية.

والآن وقد تم انتخاب محمود عباس (أبو مازن) بالطريقة التي تم انتخابه بها، فإن ما يجب أن يُفهم من هذا الانتخاب، هو انتهاء مرحلة «الثورة» وبداية الانتقال إلى مرحلة «الدولة». فهذا الرجل يختلف عن ياسر عرفات، الذي بقي لأكثر من أربعين عاماً «الزعيم الأوحد» للشعب الفلسطيني، في انه غير «شعبوي» ولا يهمه ماذا يقال عنه، بل ماذا يفعل، وانه، وقد غدا القائد الأول، لا يمكن أن يقبل بأن يقوده الشارع، بل أن يقود هو الشارع، وهو شارع، في ضوء ما حدث خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، يعيش حالة إحباط شديدة، وظروفه المعاشية صعبة وقاسية.

كان (أبو عمار)، رحمه الله، أول من رفع شعار «الدولة» إلى جانب بندقية «الثورة». وكان قد قال في خطابه التاريخي في الأمم المتحدة في عام 1974، إنه جاء وهو يحمل غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى، ولذلك وانسجاماً مع هذا التوجه، الذي أصبح قراراً وخياراً مع الأيام والتطورات التي استجدت منذ مطلع عقد سبعينات القرن الماضي، فإنه لم يترك باباً إلا وطرقه ولا فرصة إلا وحاول استغلالها، في معظم الأحيان بالسر، وفي أحيان أخرى بالعلن، ومن فوق المنابر الدولية وخلال القمم العربية، وأهمها على هذا الصعيد قمة «فاس» الثانية في عام 1982، وأمام كل المجالس الوطنية المتأخرة.

لكن، وعندما لاحت فرصة كبيرة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو الشهيرة، وعودته مع رفاقه من المنافي إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنه بقي بالنسبة للإدارة والأداء والعلاقات الداخلية داخل منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية، وليس بالنسبة للمواقف السياسية، أسيراً للطرق التي أدار بها «جمهورية الفاكهاني» في بيروت الغربية، و«فتح لاند» في الجنوب اللبناني، ولم يضع موضع التنفيذ مقولة: «إن ما يصلح للثورة ليس بالضرورة يصلح للدولة»!

لقد حاول (أبو عمار) بمجرد عودته إلى وطنه، بناء دولة الشعب الفلسطيني المنشودة، التي بقي يحلم بها منذ أن وضع رجله على بداية طريق الكفاح في منتصف خمسينات القرن الماضي، وبالطريقة نفسها التي بنى بها أغرب ثورة في تاريخ شعوب الكرة الأرضية، التي كافحت للتخلص مـن الاستعمار والهيمنة الأجنبية، ولقد استعان بالطاقم نفسه الذي «حكم» به جمهورية الفاكهاني في بيروت الغربية، فكانت النتيجة صورة مشوهة وحائرة بين الدولة والثورة، وبقيت الأمور تُسيَّر بطريقة بعيدة عن المؤسساتية، التي كان المفترض أن يبدأ العمل لإنشائها، منذ لحظة الوصول إلى الضفة الغربية وقطاع غزة.

كانت «شعبوية» ياسر عرفات طاغية عندما كان مجرد رئيس لمنظمة التحرير وقائد لثورة المنافي، التي تحولت إلى جزر متباعدة بعد الخروج من بيروت في عام 1982. ولقد بقيت هذه الشعبوية هي التي تحكم مواقفه السياسية وإجراءاته الإدارية والتنظيمية بعد عودته، وأصبح رئيساً للسلطة الوطنية، ولذلك فإنه وضع على رأس الإدارات والمؤسسات رجالاً امتهنوا «الثورة»، وليس لديهم أية معرفة بكيفية بناء الدولة.

وحتى عندما أصبح في «المنتدى» في غزة، وفي «المقاطعة» في رام الله، بعيداً عن امتدادات الأنظمة في الوضع الداخلي الفلسطيني، وفي مأمن من سطوة «الجغرافيا السياسية»، فإن (أبو عمار) بقي يتأثر بما يقال في الشارعين الفلسطيني والعربي، ويحسب ألف حساب، حتى للفصائل الفلسطينية الوهمية، التي ليس لها أي وجود فعلي وحقيقي، لا في «الداخل» ولا في «الخارج»، قبل أن يتخذ قراراً او يخطو أي خطوة بالنسبة للتفاوض مع إسرائيل وعملية السلام في محطاتها المتعددة المختلفة.

وهنا، وحتى لا نظلم هذا الرجل الذي أصبح في ذمة الله، فإنه لا بد من التأكيد على أن الأساليب التي اتبعها الإسرائيليون بدعم من الولايات المتحدة، قد ساهمت مساهمة رئيسية في بقاء الحالة الفلسطينية حائرة بين «الدولة» و«الثورة»، وبقاء ياسر عرفات يدير الأمور بالطريقة التي أدار بها «جمهورية الفاكهاني» في بيروت الغربية، و«فتح لاند» في الجنوب اللبناني، ولاحقاً عندما انتقلت «جمهوريته» المهيضة الجناح إلى «حمام الشط» في تونس.

لقد ثبتت الممارسات الإسرائيلية، خصوصاً بعد اغتيال إسحق رابين، وفي ضوء المواقف التي اتخذها الأميركيون إزاء الوضع في الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي خلال مرحلة بيل كلينتون، وبعد ذلك خلال مرحلة بوش الابن، ياسر عرفات عند نقطة لا ثورة ولا دولة. ولقد زاد الطين بلَّة كما يقال، عندما أصبح أبو عمار رهين مبنى «المقاطعة» وسجينه في رام الله، وبالصورة المعروفة خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت وفاته ورحيله عن هذه الدنيا.

والآن، وقد حل أبو مازن محل الزعيم الفلسطيني، وبقرار من صناديق الاقتراع، وليس بقرار الأمر الواقع أو «الشرعية الثورية»، فإنه بالإمكان القول ان مرحلة «الثورة» قد انتهت، وان مرحلة «الدولة» قد بدأت، هذا إذا لم يتبع الإسرائيليون الأساليب السابقة التي اتبعوها مع ياسر عرفات، ولم تبق بعض الفصائل الفلسطينية تُغمِّس خارج الصحن، وتبقى سياساتها وأفعالها مجرد ردود أفعال للاستفزازات الإسرائيلية، التي هدفها استدراج ردود الأفعال هذه، وفي مقدمتها وعلى رأسها «العمليات الانتحارية»، لتستطيع التملص من عملية السلام وتأجيل الاستحقاقات التي بالنتيجة، لا بد من دفعها حتى ولو بعد ألف عام.

إن أهم جوانب الانتخابات، التي أجريت يوم الأحد الماضي، أنها وضعت في يد الرئيس الفلسطيني الجديد، المعروف بأنه كان حسم أموره وقناعاته قبل نحو ربع قرن واختار خيار السلام، إمكانيات الانتقال بالحالة الفلسطينية من وضعية «الثورة» إلى وضعية «الدولة» وبناء مؤسسات فعلية، على أنقاض ما قامت عليه دولة «جمهورية الفاكهاني»، وبطاقم غير الطاقم الذي أدار به أبو عمار وضعية لا هي دولة ولا هي ثورة.

وما توفر لرئيس السلطة الوطنية الجديد، أن الانتخابات التي أجريت يوم الأحد الماضي، بشفافية تضاهي شفافية الانتخابات التي تجريها الدول الديموقراطية العريقة، بقدر ما حاصرت المفاهيم والتصرفات الإسرائيلية التي سادت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وأوصلت عملية السلام إلى ما وصلت اليه، بقدر ما زودت محمود عباس بجرأة تمكنه من اتخاذ أولى الخطوات وأخطرها، وهي خطوة استبدال بعض رموز الطاقم السابق الذي أدار به أبو عمار «الثورة» ولم يستطع أن يبني به «الدولة »، بطاقم جديد كفء ومتحرر من إرث «جمهورية الفاكهاني»، ولديه القدرة على مماشاة عالم اليوم، الذي يختلف اختلافاً جذرياً عن عالم العقود الأربعة بعد إنطلاقة الثورة الفلسطينية في عام 1965.

إنها مهمة في غاية الصعوبة، فالمؤكد أن «أمراء» الحالة السابقة، لن يرفعوا أيديهم بسهولة للتغيير القادم، الذي لا بد منه للإنتقال من مرحلة «الثورة» إلى مرحلة «الدولة». لكن إدراك انه من غير الممكن الانتقال من مرحلة، لها ما لها وعليها ما عليها، إلى مرحلة جديدة، يحتم القيام بمثل هذه الخطوة، إن ليس مرة واحدة فبالتدريج وحلقة بعد حلقة، وبحيث لا يحدث أي فراغ أمني أو سياسي، أو أية خضات أمنية وسياسية مربكة.

ولا يمكن استئناف عملية السلام وخوض معركة مفاوضات، ستكون حتماً أصعب من المفاوضات السابقة، رغم صعوبة تلك المفاوضات ، بدون ترتيب الوضع الفلسطيني الداخلي، واستبدال الأجهزة والأطقم التي ثبت بشكل قاطع أنها لا تستطيع بناء «الدولة» المنشودة ، بنفس نجاعة بناء «الثورة» والمحافظة على هذه الثورة واستمرارها، في ظل ظروف عربية ودولية ليست ملائمة.

سيكون من الصعب على الرئيس الفلسطيني الجديد التخلص من رفاق ياسر عرفات، ورفاقه هو أيام «الثورة»، أو التخلي عن بعضهم، لكن بما أن الضرورات تبيح المحظورات، وبما أن الله سبحانه وتعالى أباح «الطلاق»، رغم انه أبغض الحلال عنده، فإنه لا بد من ترشيق الطاقم الذي سيخوض به أبو مازن المعارك الداخلية والخارجية التي تنتظره، والتي وصفها بأنها ستكون «الجهاد الأكبر».