زيارة كارلوس للمغرب: دور الملكية الإسبانية منقوش في أرض الواقع

TT

في مطلع عام 1979، وفي احدى لياليه، اجتمع بمدريد على مائدة عشاء، خوسي سوليس، الذي سبق ان شغل عدة مناصب وزارية في الحكومات المتعددة للجنرال فرانكو، وكان احد اعضاء مجلس الوصاية على العرش، قبل تقلد الملك خوان كارلوس عرش اسبانيا. وكان سوليس يحظى بعطف ملك المغرب، خصوصا انه لعب دورا مهما وكبيرا في ايجاد تسوية لنزاع الصحراء بين المغرب واسبانيا عام 1975.

والى جانب سوليس جلس الى مائدة العشاء المعطي جوريو، الذي سبق له ان كان وزيرا وسفيرا للمغرب في عدة دول، وكان يومه حديث العهد بمدريد كأول سفير للمغرب، يتم تعيينه في عهد النظام الملكي الاسباني الجديد، خلفا لعبد اللطيف الفيلالي، رئيس الحكومة الاسبق.

كانت اول مهام السفير الجديد فتح علاقات متميزة جديدة بين المغرب واسبانيا، في عهد النظام الملكي الجديد. وخلال ايامه الاولى بمدريد، كان يجس النبض للتعرف على كل الطرق لتقوية العلاقات بين المملكتين الجارتين والسبل للوصول لذلك.

اتذكر انه خلال مأدبة العشاء تمحور الحديث بين الرجلين، حول الدور الذي يمكن ان تلعبه الملكية الحديثة العهد في تعزيز العلاقات بين اسبانيا ودول المغرب العربي، وعلى الخصوص المغرب. وكان جواب سوليس ان الدستور الاسباني اعطى سلطات واسعة لرئيس الحكومة، وان دور الملك على ما يظهر شرفي اكثر منه تنفيذي، لكن في الحقيقة والواقع فالملكية في اسبانيا لها نفوذ كبير غير مسطر في الدستور، بل يوجد في الواقع الملموس، مضيفا انه بحكم تجربته يعتقد ان العلاقات ستكون جيدة بين اسبانيا ودول المغرب العربي جميعا، وعلى الخصوص بين العاهلين، خوان كارلوس، والحسن الثاني. المحور الثاني للحديث والذي كان نتيجة طبيعية لجواب سوليس، هو معرفة ما اذا كان الوقت مناسبا لإعداد زيارة رسمية لملك اسبانيا للمغرب، والتي ستكون اول زيارة لملك اسباني لبلد عربي.

في اليوم الموالي كلفني السفير جوريو، بتحرير تقرير حول هذا الموضوع، ولم تمض سوى اشهر معدودة حتى كانت شوارع فاس مكتظة بحشود بشرية، جاءت لتحية العاهل الاسباني وقرينته في اول زيارة لعاهل اسباني الى بلد المغرب، وكان ذلك في اكتوبر (تشرين الاول) من نفس سنة 1979 .

لقد كانت زيارة ناجحة بكل المعايير، وكانت بالاساس فاتحة عهد جديد لعلاقات قوية طويت خلالها صفحة ازمة الصحراء نهائيا بين البلدين، وعرفت الزيارة وبالموازاة معها مفاوضات في عدة ميادين، اسفرت عن تعميق التعاون في عدة قطاعات، وبالخصوص الميدان الاقتصادي والثقافي، وفتحت ملفات جديدة ولأول مرة، منها على وجه الخصوص الملف الاجتماعي، حيث تعهد الطرف الاسباني باجراء عملية تسوية لوضعية الآلاف العمال المغاربة باسبانيا، وتعهد بفتح مفاوضات في ميدان الضمان الاجتماعي، وقدمت المصالح الاجتماعية بالسفارة اول برنامج لعملية العبور لفائدة ابناء المغرب العربي العاملين باوروبا، والذين يعبرون التراب الاسباني الى ديارهم وخاصة في عطلة الصيف.

وفي سنة 1982 وعلى اثر نجاح الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني بزعامة فيليبي غونتاليث، اعتقد الكثيرون ان العلاقات بين البلدين ستشهد فتورا، وان دور الملك خوان كارلوس سيعرف تقلصا، لأن الحزب الاشتراكي كان في الاصل ذا نزعة جمهورية، وكان سائدا كذلك ان الاشتراكية والملكية لا تتعايشان جنبا الى جنب، وتاريخ اسبانيا وحربها الاهلية خير دليل على ذلك.

لكن فيليبي غونتاليث، الذي تقلد رئاسة الحكومة، عزز دور الملكية الاسبانية واستعان بنفوذها المعنوي على المستوى الوطني والدولي، خصوصا لتقوية العلاقات مع دول عربية صديقة لاسبانيا، ذات نظام ملكي، خصوصا المغرب والمملكة العربية السعودية والمملكة الاردنية.

وهكذا عرفت العلاقات المغربية الاسبانية تحسنا مطردا، بفضل الروابط التي اصبحت اخوية بين العاهل المغربي والعاهل الاسباني توجت بابرام معاهدة الصداقة والتعاون وحسن الجوار، وقعها كل من رئيس الحكومة المغربية والحكومة الاسبانية بحضور عاهلي البلدين، وهي المرة الاولى التي يسافر فيها ملك اسبانيا رفقة رئيس الحكومة في زيارة مشتركة.

وبعودة الاشتراكيين للحكم ثانية، بعد نجاحهم في الانتخابات الاخيرة في مارس (اذار) 2004، عاد الرئيس الجديد، خوسي لويس ثباتيرو، مستلهما دروس فيليبي غونتاليث ليستعين من جديد بالمؤسسة الملكية الاسبانية، خدمة لمصالح الشعبين الاسباني والمغربي، هذا بعدما عرف النشاط الملكي في عهد حكومة اليمين التي ترأسها خوصي ماريا اثنار فتورا. وفي هذا الاطار الجديد تتم الزيارة الملكية الاسبانية للمغرب، انها زيارة تندرج في مخطط تعزيز العلاقات الثنائية بين المغرب واسبانيا، لتشمل كل المغرب العربي، جاعلة من المغرب واسبانيا النواة الصلبة لهذا التعاون وتطويره، ليرتبط بعلاقات جنوب ـ جنوب التي ستعرف البرازيل هذه السنة اول قمة لدول عربية مع دول اميركا اللاتينية، والتي تتابعها الدبلوماسية الاسبانية عن كثب واهتمام. كما يمكن لهذه العلاقات الثنائية الصلبة ان ترتبط مع التعاون المغربي الافريقي، لتشكل هذه العلاقات، سواء منها الافريقية او اللاتينية، مكملة للتعاون مع الاتحاد الاوروبي، وتكون فيه كل من المغرب واسبانيا العروة الوثقى لهذا المفهوم الجديد للعلاقات الدولية، والذي يعمل المغرب على ان يكون في مقدمة الركب.

اصبحت الدبلوماسية الاسبانية الحالية مقتنعة بهذا التوجه، وتعتبر أن المغرب تخطى في دبلوماسيته مرحلة التصورات الى مرحلة التطبيق. وزيارة محمد السادس في مطلع هذه السنة لدول مشرقية، وفي وسط السنة لدول افريقية، ومؤخرا لاميركا اللاتينية، واعلان اغادير واتفاقية التبادل الحر مع الولايات، هي افعال تترجم خطابات العاهل المغربي وتصوراته، لقضايا العولمة والتنمية والتعاون الدولي من اجل السلم والرفاهية البشرية، الى امر ملموس وواقع حي.

لهذه الاسباب يعتبر المراقبون السياسيون ان الزيارة الحالية للمغرب استراتيجية، ليس فقط فيما يخص العلاقات الثنائية التي هي في حد ذاتها زاخرة بامكانيات التعاون، بل تتخطاها لخلق فضاء اقتصادي واجتماعي للمغرب العربي، ليكون همزة وصل بين المشرق واميركا اللاتينية ومع الاتحاد الاوروبي ومع دول جنوب الصحراء. وهذا يكون ممكنا ما دامت جهات مصرة على تجزئة المغرب العربي، والدبلوماسية الاسبانية اصبحت مقتنعة اليوم ان خلق كيان لا يهدد وحدة المغرب وأمنه، بل يهدد حتى امن ووحدة اسبانيا، ولهذا تعمل اسبانيا من اجل ايجاد تسوية عاجلة لنزاع الصحراء، ولان كل الاطراف تخسر فيها اكثر مما يمكن ان تجنيه من ثمار التعاون.

وهكذا نرى بالملموس أن ما قاله سوليس لسفير المغرب في اسبانيا في السبعينيات كان صائبا: «الملكية الاسبانية لها نفوذ غير مكتوب في الدستور بل منقوش على ارض».

* دبلوماسي سابق

بسفارة المغرب في مدريد