عندما تصبح الحرية خطرا على العروبة والديمقراطية!

TT

يبدو واضحا الآن أن أميركا بوش عازمة على المضي في التدخل المباشر في المنطقة العربية تحت شعارات ثلاثة: الحرية والديمقراطية ومكافحة الإرهاب.

الشعارات براقة لا أحد، مبدئيا، يجادل فيها سوى بن لادن الذي كشف تخلفه الفكري أمام العرب جميعا، بتكفيره الحرية والديمقراطية، لكن بوش، على الجانب الآخر، كشف عن سذاجة مفهوم الإدارة الأميركية للحرية والديمقراطية، بتطعيمها المبطن بالفرز الديني المسطح لعالم بلونين، عالم الخير والشر، عالم الحرية والاستبداد.

عربيا، الترويج الاميركي للحرية والديمقراطية لا يمكن فصله عن الطريقة الأميركية في تسويق السلع التجارية (دعه يربح. دعه يمر). الحرية والديمقراطية بلا فهم عميق للتناقضات الاجتماعية في العالم العربي تغدوان خطرا على العرب وعلى أميركا أيضا.

انها لسذاجة كبيرة أن تحاول فرض ممارسة الديمقراطية قبل نشر الايمان بالحرية. التجربة العراقية دليل وبرهان. لقد فُرضت الديمقراطية بالتدخل المسلح غير المدعوم بالشرعية الدولية. وجر النصر في الحرب الى هزيمة الاحتلال! تحول العراق من موقع الاستبداد الى مأوى الإرهاب. ودمرت ديمقراطية الاقتراع المستعجلة وحدة العراق، وغيبت وجهه العربي.

لست ضد الحرية والديمقراطية. لكني ضد المثالية الفكرية عند المثقفين التي تتجاهل واقعية التطبيق على الأرض. سيقت قطعان الناخبين الى صناديق الاقتراع في العراق بفتوى مرجع ديني طائفي. وها هو الفرز البطيء للأصوات، يقفز الى المسرح السياسي بقوى مجهولة غير واضحة المعالم في أغراضها الاجتماعية والسياسية، ولا يمكن وصفها بأنها قوى ديمقراطية.

لقد طالبتُ قبل عشر سنوات هنا في «الشرق الأوسط» بتأجيل المشروع الديمقراطي في العالم العربي، ريثما يتم تأهيل العرب بثقافة الحرية، وتدريبهم على ممارسة الديمقراطية. زملائي كتاب صفحة الرأي، وبينهم مفكرون ومثقفون ذوو شأن، أجمعوا آنذاك على رفض التأجيل، وطالبوا بالتطبيق الفوري.

لم أكن وحدي مع التأجيل. في إحدى زياراته المتكررة لباريس للقاء شيراك نصوحه السابق المخلص والأمين قدم لي الدكتور بشار الأسد شرحا نظريا مسهبا حول ضرورة التأجيل، ريثما يتم تأهيل «الجماهير الشعبية» ديمقراطيا. وكان تساؤلي بسيطا ومختصرا للغاية: لماذا لم يقم النظام العربي خلال خمسين سنة من الاستقلال بإعداد وتربية «الجماهير» لممارسة الحرية وفق الأصول الديمقراطية؟

منظومة بوش عن الحرية والديمقراطية التي قدمها في خطابي تجديد ولايته وحالة الاتحاد الاميركي، تنقضها ممارسات الإدارة الأميركية ذاتها. بحجة الحرب على الإرهاب، ضاقت مساحة الحرية السياسية والشخصية في الولايات المتحدة، بشكل لم تعهده منذ عهد الرئيس فرانكلن روزفلت خلال الحرب العالمية ضد الفاشية النازية. بات روبرتو غونزاليس وزيرا للعدل، وهو المستشار القانوني الذي أفتى لبوش ورامسفيلد بغض النظر عن ممارسات التعذيب وانتهاك حقوق الانسان في المعتقلات الأميركية الممتدة من أبو غريب الى غوانتانامو، تلك الممارسات التي تعكس ثقافة العنف والجنس في المجتمع الأميركي.

كنت دائما من المحذرين من الانسياق في إشاعة ثقافة الكراهية ضد أميركا. لكن لا يمكن السكوت عن سذاجة المنظومة النظرية للحرية عند بوش وتناقضاتها في التطبيق وفي التفاصيل. بات معروفا أن مفهوم بوش الساذج للحرية والديمقراطية، يستند الى فكر الأصولية المسيحية ـ اليهودية الأميركية التي تفرز العالم على أساس معادلة الخير والشر الدينية، تماما كما تفعل أصولية بن لادن التي تفرز العالم، على أساس معادلة الكفر والإيمان.

أكتشف الآن أن بوش دعم مفهومه المبسط للحرية بأفكار داعية صهيوني اسرائيلي عن علاقة الحرية بالعدالة. بلغ من إعجابه بناتان سخارانسكي أنه أمر كتاب خطبه بتضمين خطابيه الأخيرين، أفكارا وعبارات مستقاة من كتاب سخارانسكي (قضية الديمقراطية: قوة الحرية للتغلب على الاستبداد والإرهاب). بل «حظي» الرئيس «بشرف» مقابلة المؤلف عندما دعاه الى البيت الأبيض، وقضى ساعة معه يستمع إلى شرح لنظريته في الكتاب، عن «العدالة» في حرمان الفلسطينيين من الاستقلال، لأنهم، كالعرب، لا يؤمنون بالحرية. كيف يمكن لرئيس أميركي منحاز سلفا لإسرائيل، أن يتعامل مع العرب، استنادا الى أفكار داعية بالإضافة الى كونه وزيرا لشارون، هو من أشد الصهاينة تطرفا في دعم المستوطنين سُرَّاق الأرض؟!

تابعت سخارانسكي من خلال اهتمامي بفن التضليل الإعلامي خلال الحرب الباردة. فقد قدمه الغرب داعية للحرية وهو «يناضل» من أجلها في الاتحاد السوفياتي. كان الإعلام الغربي «الحر الموضوعي» كاذبا ومضللا في رسم سخارانسكي رمزا للحرية. كان الرجل مجرد عميل رخيص للغرب، وداعية صهيونيا لسلخ اليهود عن وطنهم السلافي، وتهجيرهم الى اسرائيل «أرض الميعاد».

كان «بطل» الحرية سخارانسكي يدخل قاعة المحكمة وهو ينشد نشيد «هاتكفاه» الصهيوني. مع انهيار الاتحاد السوفياتي، هاجر «البطل» المزعوم الى اسرائيل، وحقق حلمه في تفريغ وطنه الأصلي من اليهود، وشحنهم الى اسرائيل.

في «أرض الميعاد»، لم يفتح سخارانسكي فمه بكلمة واحدة عن حق الفلسطينيين بالحرية والدولة المستقلة، بحيث كان موضع عتب وتوبيخ اليسار الاسرائيلي، ثم شكل حزبا لليهود الروس هو في التصنيف على يمين الليكود، وشريكا أساسيا له في حكوماته.

الطريف في سذاجة منظومة بوش عن الحرية أن سخارانسكي لم يكن يوما محسوبا على الثقافة والفكر، لتتم المباهاة بأفكاره المسطحة عن الحرية والعدالة السياسية، وللتعامل على أساسها مع ربع مليار عربي. بوش اليوم موضع السخرية لدى مثقفي أوروبا وصحافتها على حلفه النظري مع معلمه ورائده الفكري سخارانسكي.

الغريب أن العرب الرسميين لا يقرأون. لو كانوا يقرأون لسارعوا الى تسويق ديبلوماسي لانحياز بوش الخطير ضدهم، لدى أصدقائهم الأوروبيين الذين باتوا متعاطفين مع العرب والقضية الفلسطينية، بدلا من مسايرة بوش في تأييد إجراء الانتخابات العراقية، واعتبار مجرد اجرائها نصرا، من دون النظر في نتائجها الكارثية التي أسفرت عن هذا المولود الخرافي المضاد لمصالح العرب وأميركا والغرب معا.

تحرك النظام العربي نحو تأهيل مجتمعه لممارسة الديمقرطية، من خلال الانفتاح التدريجي على حرية الاقتراع، وعلى فتح آفاق التعددية الفكرية والثقافية... كل ذلك لا يلغي الاعتراف بأن المجتمع العربي هش التركيب للغاية، وسريع الانكسار كمزهرية رقيقة أمام النقر المتواصل عليها بفوضى الحرية والديمقراطية التي سوف تصيبها بالشروخ، بعد سقوط القيم الوطنية والقومية، كما العراق، وتفرزها الى شيع وطوائف وأحزاب غير ديمقراطية.

«المعارضة» السعودية المقيمة في لندن «حصن» الديمقراطية هي، مثلا، أكثر انغلاقا في التفسير الديني، وأشد عداء للحرية والديمقراطية. «المعارضة» السورية التي «فبركتها» المخابرات الأميركية وسوقتها إلى أوروبا، مصنوعة من أفراد متعطلين عن العمل ومشبوهين في ذممهم وقيمهم، ولا يمكن أن يكونوا مقبولين حتى لدى المعارضين الحقيقيين، كدعاة للحرية والديمقراطية.

وهكذا، فمنظومة بوش في استعجالها الحرية والديمقراطية، سوف تهز السلام الاجتماعي والاستقرار المدني في العالم العربي. وبدلا من تأهيل قوى ديمقراطية حقيقية على اليمين واليسار، فديمقراطية الاقتراع العشوائية سوف تفرز قوى سياسية ودينية مضادة للحرية والديمقراطية، تماما كما تفرز ديمقراطية الاقتراع الرسمية تفويضا مطلقا لسلطة الأمر الواقع.

أمعن النظر في قطعان الانتخابات العراقية وهي تهزج وترقص. أرى وجوها ساذجة، غائمة، مفتوحة العيون والاشداق، بلا أي تعبير عن وعي ونضج سياسي، وجوها مباهية مفاخرة بأصابعها الملوثة بدم الحبر الأسود، فرحة بسوار القيد الديمقراطي الجديد الذي تضعه في معصمها رمزا لفقدان عذريتها السياسية وغداً حريتها الاجتماعية.